لا تحبون الناصحين
توالت على الحكومات العربية في الأيام القليلة الماضية - تزامنا مع الثورتين التونسية والمصرية – نصائح العم سام الذي اكتشف أخيرا ما تعاني منه المنطقة من استبداد وفساد، وأدرك أن أهلها قد ظهرت عليهم علامات البلوغ، حسب ما أكدته له لقطات الأقمار الصناعية من أن الناس باتوا يحلمون ببقرات سمان من الحرية والديمقراطية والشفافية وحقوق الإنسان، وأنهم صاروا أكثر وعيا بحقوقهم الطبيعية في المساواة والمواطنة غير المنقوصة.
نصائح العم سام تمثلت في رسائل صريحة أو مبطنة من الرئيس الأمريكي باراك أوباما ونائبه جو بايدن، ومن وزير دفاعه روبرت غيتس ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، ومن المتحدث باسم البيت الأبيض روبرت غيبس، ومن غيرهم أيضا. كان مضمون الرسائل واحدا وهو حث الحكومات العربية على بدء الإصلاحات والاتعاظ من احتجاجات المطالبين بإصلاحات سياسية واقتصادية في كل من تونس ومصر. لكن يظهر حتى الآن أن الاستجابة لتلك الرسائل لا يزال دون المستوى المأمول، فالكل يعتبر نفسه غير معني بتلك الأحداث وما يحدثه زلزالها من ارتدادات، والجميع أوضاعه مختلفة، وأي حديث عن امتداد لما يجري في تونس إلى دول عربية أخرى كلام فارغ، كما قال أحمد أبو الغيط قبل أن تهب رياح الثورة على مصر وتفرغ كلامه من أي مضمون.
لا أظن أننا كنا بحاجة إلى العم سام أو غيره ليلقي علينا مواعظه، فما أكثر الذين تصدوا للنصيحة الخالصة من أبناء الأمة من المحيط إلى الخليج، منطلقين من دوافع وطنية ودينية، مستلهمين تراثهم الذي يؤكد على أن الدين النصيحة، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان شرعيان يطالان مجالات السياسة والاقتصاد والإدارة كما يشملان الأخلاق والآداب العامة وغيرها. لقد قدم الكثير نصائحهم على مدى عقود، وطالبوا بالإصلاحات في كافة المجالات قبل أن يستيقظ الضمير الأمريكي، وحذروا من عواقب استشراء البطالة والفقر والحرمان وامتهان كرامة الإنسان، ودفعوا في كثير من الأحيان ثمنا باهظا من حريتهم وأرزاقهم كي يعلو صوتهم قليلا لعله يبلغ غايته ويصل إلى من يعنيه الأمر.
المشكلة لم تكن أبدا في عدم وجود الناصحين، بل في عدم الإنصات لهم، ومحاولة إسكاتهم حتى لا ينغصوا حالة الاستقرار الخادع والنوم في العسل المغشوش.
واحد من الناصحين رحل عنا قريبا دون أن ينال ما يستحقه من تكريم، وهو الفريق سعد الدين الشاذلي رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية وبطل ومهندس حرب أكتوبر 1973 م، الذي تنحى عن الحياة قبل يوم واحد من التنحي القسري للرئيس المصري حسني مبارك. يا لها من مفارقة!!
هذا الرجل الذي لعب الدور الأكبر في حرب أكتوبر، كوفئ – وهو في قمة عمله العسكري- بتسريحه من الجيش في 13 ديسمبر 1973، وتعيينه سفيرا لمصر في إنجلترا ثم البرتغال. هكذا يضعون الرجل المناسب في المكان المناسب في عالمنا العربي، كفاه الله شر أعين الحاسدين. لم يكن تسريح الشاذلي من الجيش لتقصير منه، ولكن عقابا له لأنه قدم النصيحة التي لم تجد لها آذانا صاغية.
في منفاه في الجزائر التي لجأ إليها بعد انتقاده الشديد ومعارضته العلنية لاتفاقية كامب ديفيد، كتب مذكراته عن الحرب، والتي اتهم فيها السادات باتخاذ قرارات خاطئة رغما عن جميع النصائح من المحيطين أثناء سير العمليات على الجبهة؛ أدت إلى وأد النصر العسكري، والتسبب في ثغرة الدفرسوار، وتضليل الشعب بإخفاء حقيقة الثغرة وتدمير حائط الصواريخ وحصار الجيش الثالث لمدة فاقت الثلاثة أشهر ، حيث كانت تصلهم الإمدادات تحت إشراف الجيش الإسرائيلي، كما اتهم في تلك المذكرات الرئيس السادات بالتنازل عن النصر والموافقة على سحب أغلب القوات المصرية إلى غرب القناة في مفاوضات فض الاشتباك الأولى.
كوفئ الفريق الشاذلي على صراحته وإعلان رأيه بأن حكم عليه غيابيا بالسجن ثلاث سنوات مع الأشغال الشاقة، ووضعت أملاكه تحت الحراسة، كما تم حرمانه من التمثيل القانوني وتجريده من حقوقه السياسية.
كان بإمكان الشاذلي أن يجامل وينافق ليبقى في جوقة الانتهازيين وطبقة المنتفعين، ولكنه اختار طريقا آخر ليمكث في الأرض، حين يذهب جفاء كل الزبد الذي طغى على سطح الحياة السياسية في مصر ولوثها بالتزلف والتملق.