اليمنيون وصناعة المستقبل
يوما بعد يوم يثبت اليمنيون قدرتهم على اجتراح ما كان يبدو مستحيلا في نظر الآخرين. ربما يستغرق الإتيان بعرش الحرية وقتا أطول من ذلك الذي استغرقه عرش بلقيس في سفره اللحظي الميمون من اليمن إلى فلسطين, ولكنه سيأتي على كل حال بعد أن يجبر الرئيس اليمني علي عبد الله صالح على أن يقوم من مقامه ويتنحى عن كرسيه كما فعل غيره.
تشهد اليمن اليوم مخاضا عسيرا لولادة دولة مدنية حديثة، وهو أمر كان يراهن الكثيرون على عدم إمكانية تحققه، ويعزون ذلك للمكونات اليمنية ذات الولاءات المتنوعة حزبيا وقبليا ومذهبيا ومناطقيا، وللتاريخ الطويل من الحروب الداخلية بين القبائل بعضها البعض، أو بين الشمال والجنوب، أو بين الحكومة والحوثيين، ولانتشار السلاح بين أبناء اليمن حيث ما لا يقل عن سبعين مليون قطعة سلاح عند اليمنيين كأفراد.
ولكن اليمنيين استطاعوا أن يتجاوزوا ذواتهم وأن يرتقوا بها لتقبض على اللحظة التاريخية المميزة من خلال وعيهم وحراكهم الذي أصر على عدم استثناء أحد وعلى سلمية التغيير مع ما يعنيه ذلك من استعداد لتقديم المزيد من القرابين على مذبح الحرية والكرامة. فمن بين ما يثير الإعجاب هو الالتزام الصارم بسلمية التحرك مع القدرة على الرد بالمثل، وهو ما يحتاج إلى انضباط كبير مدجج بالوعي، يضاف لذلك المشاركة الفاعلة للمرأة اليمنية التي أنتجت أيقونات نسوية مثيلة لنظيرتها المصرية ( توكل كرمان مثالا).
إن أعظم فعل أنجزته الثورة حتى الآن أنها تمكنت من إنجاز مشروع الاندماج الوطني في أقصر وقت؛ فالحوثيون الذين دخلوا ست حروب ضارية في خمس سنوات لم تعد لهم مطالب سوى ما يطلبه اليمنيون جميعا من وطن عادل يكفل لكل أبنائه حقوقا وواجبات وفرصا متساوية، والجنوبيون الذين كانوا يطالبون بالانفصال يرفعون اليوم العلم اليمني ويرددون النشيد الوطني ويتحدثون عن وطن واحد ناسين كل مآسي الماضي، والقبائل التي كانت تتناحر فيما بينها أصبحت تتعايش في ساحات التغيير كأن شيئا لم يكن. لقد أدركوا جميعا أن الاستبداد كان وراء الكثير من المشاكل المفتعلة التي يغذيها ويحرص على حياتها حرصه على حياته. هكذا تفعل الأنظمة الاستبدادية في كل مكان ( تشابهت قلوبهم )، ألم يكتشف المصريون بعد سقوط نظام مبارك أن تفجير كنيسة القديسين كان فعلا مدبرا من قبل النظام لإذكاء الفتنة الطائفية؟!
اليمنيون اليوم يثبتون بأن سلاح الوعي والإيمان والوحدة أمضى من ملايين قطع السلاح التي يمتلكونها، وأن الدولة المدنية الحديثة يمكن أن تتحقق في ظل التعددية الحزبية والقبلية والمذهبية وغيرها. للأسف فإن الأنظمة الغربية أرادت أن تقنعنا دائما بأن هذا أمر غير ممكن بالنسبة لنا، وحاولت تكريس هذه القناعة من خلال إنتاج نموذجين مشوهين للديمقراطية في لبنان والعراق يقومان على المحاصصة الطائفية، والتي تجعل الأطراف كلها تستقوي بالخارج، أيا يكن هذا الخارج. ومن هنا فإن الرهان كبير على الثورات العربية في ربيعها الراهن أن تثبت قدرتها على إنتاج نظام تعددي يقوم على أساس المواطنة والكفاءة وحقوق الإنسان. أملنا أن يكون الربيع ربيع الديمقراطية والدول المدنية الجديدة.