مع الحسين يصبح للكلام طعم آخر
مع الحسين يصبح للكلام مذاق خاص يعبر بنا من عالم المحسوسات إلى عالم الملكوت من الدمعة الجارية على الخد التريب إلى نقطة الماء التي تغسل درن القلوب ببرد اليقين ، بنظارة الحياة الحسينية تألقاً وتوهجاً .
من حرقة العيون والأفئدة التي يلفحها هجير الظلم والاضطهاد على مر العصور ، لم يكن الحسين وحده مرمياً على رمضاء كربلاء ، فقد كنا نحن وكل المظلومين طوال التاريخ السابق واللاحق معه نتلظى وتحدونا سياط الجاهلية الرعناء تقطيعاً لأوصال الحقيقة المغيبة في خبايا دهاليز الساسة وأحاجي التعتيم الإعلامي الذي فضحته شمس الحسين فعرته على رؤوس الأشهاد بلون الدم الدفاق ، بحمرة اصطباغ الحقيقة التي تلون بها الوجود واهتز لها عرش المعبود .
بأرواحنا كنا معهم شهداء على ظلامات الجهل والتعصب والحقد والتعذيب والمقابر الجماعية وسياط الجلادين في غياهب الجب التي استبطنتها الأحقاد الخيبرية والحنينية وغيرهن .. ففاض كيلها على مرأى ومسمع من هذا العالم الصامت .
يقول النهر الثالث في العراق الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري
لعل السياسة فيما جنت على لاصق بك أو مدعي
وتشريدها كل من يدلي بحبل لأهليك أو مقطع
لعل لذاك وكون الشجي ولوعا بكل شج مولع
يدا في أصطباغ حديث (الحسين) بلون أريد له ممتع
وكانت ولما تزل برزة يد الواثق الملجأ الألمعي
صناعا متى ما ترد خطة وكيف ومهما ترد تصنع
مغالطات المؤرخين تزوير وتبرير
عمد بعض المؤرخين المتزلفين إلى التحجيم من شخصية أرباب الحق ليرموا بثقل المسئولية في الصراع بين رموز الحق والباطل إلى زوايا ضيقة لا تختلف عن دفة عقولهم المقفرة التي يعشعش فيها الحقد والتجاهل للرموز الربانية معللة بأن ما جرى على أهل بيت النبوة الثقل الأكبر و ورثة جنة النعيم سلام الله عليهم من ظلامات لم يكن سوى شجار عائلي بين قبيلتين عربيتين امتدتا تاريخياً بين البيتين الأموي و العلوي والأنكى من ذلك ما تمتلئ به بطون بعض كتب المؤرخين بأن ما جرى في كربلاء له عذره لان ما حدث كان اجتهاداً وخلافاً شخصياً ولكل مجتهد نصيب فإن أخطأ أحدهم حتى لو كان ذلك بالإيغال في الدماء فله أجره وإن أصاب فله أجران يا سبحان الله أفي الدم العمد أجر وفي القتل عذرٌ فكيف إذا اجتمعت الفتنة التي هي أشد من القتل مع مباركة السكوت والتشجيع على الإرهاب وكأن التاريخ يعيد نفسه لكي يستن هؤلاء بالإرهاب بقية مما ترك آل زياد وآل مروان ليخلطوا الأوراق ويصرفوا الأحداق إلى مآرب شيطانية تغتال الحقيقة تارة بتأجيج الروح المذهبية وأخرى بالاصطياد في الماء العكر بخلط الأوراق حتى صار الدفاع عن البعث الكافر هو دفاع عن مذاهب السنة وهذا هو ديدن هؤلاء فالتاريخ يعيد نفسه ويرفع المصاحف هذه المرة على أسنة أجهزة الاعلام الغوغائية التي تصرخ ليل نهار بنبرات لا تخفي على ذي لب .
ليت شعري أي عقلية متزلفة تلك التي تنظر للتاريخ بهذه السذاجة وبهذا التسطيح وتحاول إيجاد الأعذار فقط وفقط لان الحب أعمى فمن يحب الظالم والفاسق كسمرة بن جندب بكذبه واستحلاله لحرم رسول الله في المدينة المنورة وغيره لن يتوانى عن تقمص أدوارهم بلا وعي ، هؤلاء طُرداء رسول الله ولا أدري أيكفي أن توفر الأوسمة التاريخية الزائفة المبررات لقداسة عمياء ترفع من ترفع وتضع من تضع وكأن الحق يعرف بالرجال .. إنها جوقة مقاييس يفصلها الموروث المغلوط على مقاس من يشاء لتصلح مادة للنزاع توغر بها الصدور كلما ضاقت السبل على أهل هُبل .
والعجب كل العجب من أمة تقتل ابن بنت نبيها كل يوم آلالاف المرات فلا تستأمنه في الحرمات ، وفيمن ؟ في أهل بيته الذين شرفهم الله وأعلى قدرهم وفي محبيهم وأوطانهم حتى غدا الرعاع وشذاذ الآفاق هم أكثر من يسيء لأمة محمد ويشوه صورتها أمام الرأي العام العالمي .
ليت هؤلاء يطالعون التاريخ بشكل صحيح فكربلاء قد فضحت زيف كل الظلمة المتلبسين بالدين الذين قال عنهم الإمام الحسين الشهيد (الدين لعق على ألستنتهم يحوطونه ما درت معايشهم فإذا محصوا بالبلاء قل الدينانون)
برز الإسلام كله
فها هو الدعي بن الدعي يطلب أن يدخل الجميع إلى قصر الأمارة حيث كان رجال البلاط الأموي جالسين ينتظرون أسارى كربلاء من آل بيت النبوة ومعدن الرسالة وهم مصفدون بالحبال والأغلال المتصلة من عنق زين العابدين وسيد الساجدين إلى عنق عمته زينب وباقي بنات رسول الله ونساء أصحاب الحسين عليهم السلام ... ولا أدري أين كانت عدسات المؤرخين ولما استغرقت تمجد الظلمة في محضرهم أحياء وأموات .. لتدلل على ولائها الشديد وولعها بهم مرة باسم درأ المفاسد ، وأخرى بحجة طاعة أولي الأمر فكان أن ساووا بين السلطان وأولي الأمر حتى قيل الحسين سلطان ويزيد سلطان وما لنا والدخول بين السلاطين ولعمري لو لم يتجرأ يزيد على الحسين ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة لما تجرأ غيره من ظلمة التاريخ على الأمة .
انقلاب الصورة
لقد اعتلت الابتسامة وجه يزيد ملاعب القردة ومستوزر سرجون الكافر عندما رأى سبايا أهل البيت وقد سر سروراً بالغاً فقال لرئيس حرس القصر:
اكتفيت اليوم برؤيتهم فما عليك الآن إلا أن توقفهم موقف السبي بباب المسجد نظر زين العابدين نظرة وعي وبصيرة وأنفة ، كلها تحد إلى الخليفة الذي لم يعين برضا الشعب وقال له بمعاقد العز وشمائل الحكمة التي خرجت من فمه الطاهر :
ما ظنك بجدنا رسول الله لو يرانا على مثل هذه الحالة ؟
فنظر إلى سرجون وإذا به يشير إلى سيده بفك الحبال، فراح يزيد يخلق الأعذار لتبرأة ساحته أمام الناس في المجلس فقال :
قبح الله ابن مرجانة لو كان بينكم وبينه قرابة لما فعل بكم هذا.
ثم أمر الحراس بفك الحبال فقطعت عنهم والتفت إلى زين العابدين وقال له:
(ايه يا علي بن الحسين أبوك الذي ... جهل حقي ، ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما رأيت ) هؤلاء يقتلون بدم بارد ليصفق لهم حقراء التاريخ والمؤرخون مكاءاً وتصدية .
عندما رأى الخليفة أن المجلس لا يوجد فيه من الناس من يتعاطف مع آل البيت أظهر فرحه الشديد بإبادته للحسين وأهله، فقد حسب أنه قد صفا له الملك واستوسقت له الأمور... فأنشد قائلاً :
ليت أشياخي ببـدر شهـدوا .. جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلـوا واستهلـوا فـرحـاً .. ثم قالوا: يا يزيـد لا تشـل
شلت يمين استنت إرهاب الصلحاء وجهلت قدرهم عن عمد وترصد
زينب النصف الآخر من الثورة
لما سمعت زينب طود العفة والرفعة الشامخ هذه الأبيات المزرية التي تنم عن منتهى سرور الطاغية يزيد بقتل أهلها انتقاماً منهم لقتلى كفار بدر ، وثبت كالأسد الهصور و في دواخلها أنفة الثورة العلوية وطود العزة يستصرخ كل ذي لبِ لتسجل موقفها الذي لن ينساه كل أحرار التاريخ فقامت تزجره لتطعن كبرياء الباطل غير حافلة ولا آبهة بجبروته فلم يدركها الهول والفزع ، فلقد تلقفت سحر حبال كل فراعنة التاريخ واسترهبتهم بضميرها الحي ويقظة نفسها الأبية فقالت مزمجرة في أذن التاريخ :
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على رسول الله وآله أجمعين، صدق الله سبحانه حيث يقول : ( ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوء أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزءون) أظننت يا يزيد أنك حيث أخذت علينا بأطراف الأرض وأكناف السماء ، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى أن بنا هوانا على الله ، وبك عليه كرامة!
وأن ذلك لعظم خطرك ، فشمخت بأنفك ، ونظرت فرحاً حين رأيت الدنيا مستوثقة لك ، والأمور متسقة عليك ، وقد أمهلت ونسيت قول الله تبارك وتعالى (ولا تحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين).
أمن ا لعدل يا ابن الطلقاء تخديرك نساؤك وإماؤك؟ وسوقك بنات رسول الله أسارى قد هتكت ستورهن وليس لهن ولي من رجالهن!!!
... أتقول:
ليت أشياخي ببدر شهدوا .. جزع الخزرج من وقع الأسل
غير متألم ولا مستعظم ؟
اللهم خذ بحقنا وانتقم لنا ممن ظلمنا
نعم إن هذه الظلامات النابعة من صميم الأحقاد التاريخية تجابه بطود شامخ يمثل جبهة إيمان تعدل بروز الثقلين إلى الكفر كله ولذلك استحقت هذه الرمزية بجدارة التخليد لكونها اصدق تمثيل حضاري لصدى العدالة في كل عصر ومصر في مواجهة كل جبهات الباطل لأنها هي التي استنت أسس العمل التغييري فاستثارت الأحاسيس وألهبت المشاعر إمتثالاً لقوله تعالى ﴿ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا﴾.
نعم لقد برز الإيمان كله إلى الشرك كله كما يقول النبي الأعظم لعلي في يوم خيبر فالمفاهيم يجب ألا تحصر في أطرها الضيقة التي يحاول الإعلام الأموي ومن لف لفه واحتطب بحبله من المتزمتين في هذه الأمة أن ينساقوا وراءه ، فقضية الحسين أوضح من رابعة النهار وظلامته التي لا ينكرها مبغض قد فضحت يزيد والبيت الأموي والدائرين في فلكهم من الظلمة إلى يوم تقوم الساعة .
كربلاء عين الخلود
هكذا هي كربلاء بقيمها السامية طعم أشهى لأنها هي عين الحياة وعين الخلود منها نشرع وإليها تعود الدنيا لأنها مثلت الحق الكامل وعرت جيوش المرتزقة والأفاكين وسراق الشعوب المظلومة ، من المتسترين بالدين من أمثال علماء السوء كشريح القاضي وسلالته الذين لا زالوا يساندون الإرهاب ويفتون بجواز قتل ابن بنت رسول الله وريحانته الإمام الحسين وأصحاب الحسين في كل عصر ومصر تماماً كما يفعل علماء السوء من أصحاب الأفكار الضالة على الدوام ويتعبدون بتقديم الشعوب قرابين رضا يتزلفون بها لآلهة فهمهم المبتسر للدين فلا يقر للمستضعفين قرار ولا يهدئ في نفوسهم أوار إلا على ذكر الحسين روح القدس التي تهب للحياة طعمها وألقها .
كربلاء هي مرآة الدنيا وحجة الله البالغة وعقيدة الموحدين فلولاها لما استقام الدين عود ولما قام للحق عمود
إن كان دين محمد لن يستقم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني
حقاً مع الحسين يصبح للكلام طعم آخر ..
فسلام عليك سيدي يا أبا عبدالله الحسين وعلى الأرواح التي حلت بفناءك ما بقي الليل والنهار .