الواحدية والأحدية..
نحو ثقافة قرآنية (9)
يقول الله تبارك وتعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾([1].
باختيارنا لهذه السورة نريد أن نقول: إنّنا تعمّدنا ذلك؛ لأنّها سورة قصيرة، ويحفظها جميع المسلمين، ويكرّرها جلّنا في أغلب صلواته، فهي قرينة سورة الفاتحة في حياتنا، ومع ذلك فهل نفهم معانيها الظاهرة فضلاً عن العميقة؟!
لنشر إلى واحدة من معانيها فقط، هي: الواحدية والأحدية:
لنبدأ من مسلّمة نقرّ بها هي: أنّ جميع المسلمين يؤمنون بوحدانية الله تعالى، وهي إحدى البديهيات الدينية عندهم، ولنقل: إنّ هذا يمثّل دلالة ظاهرة لديهم؛ لأنّ (التوحيد) أهمّ مبدأ عقدي في الإسلام، وعليه يقوم بنيانه كلّه.
لكنّ هذه السورة التي يقرؤونها وردت فيها عبارتا: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾، و﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾، فهل هو تكرار للمعنى نفسه؟!
قد يُقال ذلك!!، ولكنّ الأوفق أنّ الآية الأولى تتكلّم عن (الأحدية)، بمعنى أنّ الله ليس مركباً، بينما الآية الأخرى تتحدّث عن (الواحدية) وأنّه تعالى فرد لا شريك له ولا مثيل ولا شبيه، وهكذا أضحى عندنا أمران مختلفان في المفهوم هما: الأحدية والواحدية.
وهذا مستوى من الدلالة نستطيع أن نغور لأعمق منه:
فقد وصف الله ـ سبحانه وتعالى ـ نفسه بأنّه ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾؛ فجاءت ثلاث صفات تثبت له (الوحدانية): فالله ﴿لَمْ يَلِدْ﴾ فيورِّث صفاته الألوهية لأحد بعده، ويكون هناك ولد له يشاركه في الأمور، و(لَمْ يُولَدْ﴾ من أحد فيكون هناك إله آخر قبله ورث هو الصفات عنه، ولم يكن له قرين (كفؤ) مزامن له يمتلك صفات الألوهية ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾، وهكذا انعدم اللاحق والسابق والمقارن، فهو فرد وتر ليس قبله ولا بعده ولا معه إله غيره.
وتصلح آية ﴿لَمْ يَلِدْ﴾ - على اختزالها البالغ - رداً على ثلاثة اتجاهات:
أولها: اليهود الذين زعموا أنّ (عزيراً) ابن الله.
وثانيها: النصارى الذين عدّوا المسيح ابن الله.
وقد جمعت آية في كتاب الله هذين القسمين فقالت: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾([2]، ولمّحت إلى القسم الثالث حين عدّت عمل اليهود والنصارى مشابهاً لقول الذين كفروا من قبل ﴿يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ﴾.
وثالثها: مشركو العرب الذين زعموا أنّ الملائكة بنات الله: ﴿وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ﴾([3]، ﴿أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا﴾([4].
وقد نصل إلى مستوى أعمق من ذلك، لنتساءل: ما معنى (وحدانية الله)؟
لقد وصف الله ـ سبحانه وتعالى ـ نفسه في هذه السورة وفي غيرها بالوحدانية:
واحد (رقم)- فهل الله واحد بمعنى أنّ له ثانياً وثالثاً، كما نقول عند عدّ الأشياء: واحد.. اثنان.. ثلاثة....، وهو ما يُسمّى بـ (الوحدة العددية)؟
اثنان (رقم)- أم أنّ الله واحد بمعنى أنّه لا يوجد له شريك ومثيل؟، أي أنّه (يمكن) أن يكون هناك آخر بصفاته، لكنّ ذاك لم (يقع)، وبعبارة ثانية: أنّه في عالم الإمكان والفرض يمكن أن يكون لله آخر، لكن في عالم الوجود والتحقق لم يقع ذلك، وهو ما نسمّيه بـ (الوحدة الخارجية)؟
ومن هذا القبيل: الشمس، فقد كان يمكن أن تكون في مجموعتنا شمس أخرى، لكنّ ذاك لم يحصل، والعرب لم تسمِّ بـ (الشمس) إلا هذه، أما غيرها فسمّته (نجماً)، وهكذا لم يكن هناك في الخارج واللغة إلا مصداق واحد لـ (الشمس).
ثلاثة (رقم)- أم أنّ الله واحد بمعنى أنّه لا يمكن - أصلاً - أن يكون له ثان، لا أنّه يمكن لكنّه لم يقع، فنحن ننفي الأمر منذ مرحلة (الإمكان)، فضلاً عن مرحلة (الوقوع)، لا أنّنا ننفيها في مرحلة (الوقوع) فقط، وهو ما نسمّيه بـ (الوحدة الحقّة الحقيقية)؟
ولعلّ البعض يقول - هنا -: إنّ هذا التساؤل مقحم على البحث القرآني، ولا داعي له ونحن نتحدّث عن موضوعات قرآنية، غايتها التدبر في القرآن الكريم، واستمداد أفكار التوحيد من الكتاب العزيز!!
ولكي نجيب على ذلك نقول: إنّ كلّ الآيات التي ذكرت لفظ (الواحد) - بصورة (المعرفة) - كصفة لله تعالى، جاءت معها صفة (القهّار)، وقد تكرّر ذلك في ست آيات في القرآن الكريم، منها: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾([5]، أي أنّ وحدة الله وحدة غالبة قاهرة، ومن هذا نؤمن بأنّ وحدانية الله ليست (وحدة عددية) لمحدود ينتهي ويأتي بعده ثان وثالث، وليست (وحدة خارجية) لشيء ليس في الخارج سواه، لكنّ الذهن والإمكان يفرضان غيره، ويفرضان له ثانياً وثالثاً و...، وإنّما هي (وحدة حقة حقيقية)، لا يمكن معها وجود إله آخر فضلاً عن وقوعه، ولذلك نقول: إنّ شريك الباري محال، ممتنع الوجود، لا أنّه ممكن ولكنّه لم يوجد([6].
ثمّ نصل إلى التساؤل حول معنى (الأحدية) ومجالاتها، وهي أصعب فهماً من (الوحدانية):
فالآية قالت بأنّ الله (أحد): ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾.. ولم تذكر فيم تلك الأحدية؟، أي أنّه تعالى أحد في كلّ شيء:
ماسة برتقالية صغيرةأ- فهو ليس مركباً من أجزاء وجودية (وجه، يد، ساق،....) وهو ما يُسمّى بـ (التركيب الخارجي).
ماسة برتقالية صغيرةب - وليس مركباً من (جنس وفصل)، ولا من (ماهية ووجود)، وهذا ما يُسمّى بـ (التركيب العقلي).
ماسة برتقالية صغيرةج - بل ولا مركباً حتى في قدرة الوهم والخيال، فالذهن لا يستطيع كنه الله تعالى والتعرّف على ذاته العلية، كما قال أمير المؤمنين : "من أفكر في ذات الله تزندق"([7]، "فلم يطلع العقول على تحديد صفته"([8]، ويقول الإمام السجاد : "وانحسرت العقول عن كنه معرفته"([9]، أي أنّ الله ليس مركباً - كذلك - بـ (التركيب التخيّلي) - إن صحّ التعبير، وسيأتي في الرواية القادمة ذكره، وتسميته بـ (الوهم) -.
لقد ذكر أمير المؤمنين هذه الوجوه الثلاثة للأحدية فقال: ".... وقول القائل: (إنّه - عزّ وجلّ - أحديّ المعنى)، يعني به: أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم، كذلك ربّنا - عزّ وجلّ -"([10].
والآن.. لنسأل أنفسنا سؤالاً جديداً: هذا المستوى من الفهم الذي نظنّه من التأثر بالفلسفة ومبانيها، هل نتصوّر أنّ أحداً في القرن الهجري الأول يدركه؟!
سوف نرى أنّ هذا الفهم المستعصي على بعضنا حتى الآن - ونحن في القرن الواحد والعشرين - ذكره مولانا أمير المؤمنين علي لأعرابي سأله في وسط حومة معركة الجمل وجلبة خيلها وصليل سيوفها، وسط تطاير الأيدي والرؤوس!!، فقال: يا أمير المؤمنين، أتقول: إنّ الله واحد؟، فحمل الناس على الأعرابي وقالوا له: أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسّم القلب؟!، فقال علي : "دعوه، فإنّ الذي يريده الأعرابي هو ما نريده من القوم"([11].
ثمّ أجابه وهو بين زحمة الألوف والصفوف والسيوف: "يا أعرابي، إنّ القول في أنّ الله واحد على أربعة أقسام:
فوجهان منها لا يجوزان على الله - عزّ وجلّ -، ووجهان يثبتان فيه:
فأما اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل: (واحد) يقصد به باب الأعداد، فهذا ما لا يجوز؛ لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد، أما ترى أنّه كفر من قال: (إنّه ثالث ثلاثة). وقول القائل: (هو واحد من الناس)، يريد به: النوع من الجنس، فهذا ما لا يجوز؛ لأنّه تشبيه، وجلّ ربّنا وتعالى عن ذلك.
وأما الوجهان اللذان يثبتان فيه: فقول القائل: (هو واحد ليس له في الأشياء شبه)، كذلك ربّنا. وقول القائل: (إنّه - عزّ وجلّ - أحديّ المعنى)، يعني به: أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم، كذلك ربّنا - عزّ وجلّ -"([12].
فقد ذكر أمير المؤمنين المعاني الأربعة السابقة كاملة:
واحد (رقم)- الوحدة العددية: "(واحد) يقصد به باب الأعداد".
اثنان (رقم)- الوحدة الخارجية: "(هو واحد من الناس)، يريد به: النوع من الجنس".
وهذان الوجهان هما "اللذان لا يجوزان عليه" - جلّ وعلا -.
ثلاثة (رقم)- الوحدة الحقة الحقيقية: "هو واحد ليس له في الأشياء شبه".
أربعة (رقم)- الأحدية: "(إنّه - عزّ وجلّ - أحديّ المعنى)، يعني به: أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم".
والأخيران هما "الوجهان اللذان يثبتان فيه" - سبحانه وتعالى -.
وبدمج معطيات النصّين - القرآني والروائي - نخرج بالخريطة التالية حول موضوع (وحدة الله):
(ورق اللعب)- وحدة الله لها معنيان:
واحد (رقم)- الواحدية:
وللواحدية معان ٍ هي:
أ- الوحدة العددية.
ب - الوحدة الخارجية.
وهذان المعنيان لا يصحّان في الإطلاق على الله.
ج - الوحدة الحقة الحقيقية (وهو المعنى الصحيح للوحدانية).
ومما يثبت الوحدانية أمور، هي أنّ الله:
أ- لم يورِّث الألوهية لأحد، فلا إله تالي له: ﴿لَمْ يَلِدْ﴾.
ب - لم يرث الألوهية من أحد، فلا إله سابق له: ﴿وَلَمْ يُولَدْ﴾.
ج - لم يكن معه مقارن في الألوهية، فلا إله مزامن له: ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾.
فانعدم الإله السابق واللاحق والمزامن (لا إله إلا الله)!!
اثنان (رقم)- الأحدية:
و(الأحدية: نفي التركيب)، وتنفي ثلاثة أنواع من التركيب، هي:
أ- التركيب الخارجي.
ب - التركيب العقلي.
ج - التركيب التخيّلي.