كربلاء مدرسة الحياة
شممتُ ثراكَ فهبَ النسيم ........ نسيمَ الكرامةِ من بلقعِ
الجواهري .
نقف على أعتاب كربلاء كل عام لائذين , نترع من فيضها , علّ الروح تجد رواءً من نبعٍ لا ينضب , أو تتزوّد لعامها قوتاً يصّعدها نحو الارتقاء .. قد جسّدت كربلاء الحسين رغم أنها محطة في حياته وجزء زاهر من تاريخه المشرق أروع نهجٍ للبشرية أجمع ..
حين نقف عند معاني صورها , ونستجدي من مواقفها نهج الحياة , لا يمكننا إلا أن ننحني بإجلال أمام عظمتها مدركين أننا مهما وصلنا من العلم , ونُلنا من المعرفة سنبقى تلاميذاً في مدرسته !
إن نهج عاشوراء الإمام الحسين كان ناموساً للبشرية أجمع , ونحن إذ نحيي هذه الفاجعة العظيمة كل عام و نذرف الدمع , لا ينبغي هدفها الأساسي وغايتها العظمى الذي كانت لأجله.
لم يعرف التاريخ الإنساني أفظع من فاجعة الإمام الحسين ... ولذا فإن كل الإنسانية مهما كان دينها وجنسها لا تملك إلا أن تتأثر حزناً , أو يزور الدمع عيونها حين تعرفها ..
كما ذكر المستشرق الانجليزي ادوارد دبروان في قوله ( وهل ثمة قلب لا يغشاه الحزن و الألم حين يسمع حديث كربلاء ! , وحتى غير المسلمين لا يمكنهم إنكار طهارة الروح التي وقعت هذه المعركة في ظلها )
إذاً فالأحرى بنا إعطاء نهضة الحسن حقها نهجاً وحُزناً , عِبرةً وعَبرة ..
ليس الأمر بإحياء ذكرى عاشوراء كل عام إلا إنهاضاً لشعلة الحق وجُملة المبادئ التي بذل فيها الحسين الغالي والنفيس لرعايتها لتبقى مستمرة صرخةً مدوية في ضمير الإنسانية ومناراً للروح لا يعرف الخبو ..
إننا نقف عند عاشوراء الإمام الحسين كل عام , ونذرف الدموع الساخنة بتفجّع القلوب الوالهة , نجدد الولاء والبيعة ,, لكن جدير بنا أن نكون بمستوى الحزن من التأثر .. جديرٌ بنا ألا ننسى الوقوف عند قيمها السامية والامتثال بمبادئها العظيمة .. والتخلق بطريقها الحسن ..
حيث في تلك الأيام , وفي تلك الفترة المحدودة تتجلى عظمة الإنسانية بأبهى مجاليها ..
إن طفلة صغيرة لم تتجاوز السادسة , تقاوم النصب والعطش لايصال الماء للحسين , وحين تعلم باستشهاده تلقي بالماء على الأرض معلنةً ( لا حاجة بنا للماء بعد الحسين ) ! , قد نصبت في معناها نهج الوفاء والإباء , فلن تملك الروح إلا أن تنحني لها إجلالاً وغبطة .
قد مثلت عاشوراء – الحسين – نهج الحياة الذي من يعيه ويستطيع استيعابه – وهيهات أن يستوعبه كاملاً – فإنه يكون قد مضى في ركب النجاة ( إن الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة ) .وحري بنا عند ذاك الوقوف عند كل معنىً من معانيها و إعمال الفك تدبراً عند آياتها
· موقف الحر بن يزيد حيث مثل التوبة والعودة للحق .
· موقف الإمام الحسين وهو يسقي راحلة عدوه ,, مثّل تسامي الإنسانية وطهارتها
· موقفه وهو يبكي أعداءه لما يلقون من عقاب ..مثّل منتهى الرحمة وعظمة الروح
· موقف مسلم بن عوسجة حين قال ( لو وددت أني قتلت ثم حرقت ثم ذررت ثم قتلت ثم حرقت ثم ذررت ألف مرة )
حيث مثل التفاني والفداء والتضحية ..
· جملة الإمام الحسين قبل خروجه من مكة ( رضا الله رضانا أهل البيت ) الرضا بقدر الله والتسليم بقضاءه ..
· موقف السيدة زينب وهي ترفع الجسد الطاهر قرباناً للخالق .. الإيمان والجلد والصبر وعمق التضحية لرضا الله .
· موقف زوجة حبيب بن مظاهر ,, أم وهب , زوجته , والكثير من النسوة اللاتي شهدن الواقعة .
· جملة الإمام الحسين وهو يخاطب القوم ( كونوا أحراراً في دنياكم ) وهل الحرية إلا التحرر من شهوات النفس
وعبوديتها ؟! .
والكثير الكثير من المشاهد .. فكل مشهد فيها يحتاج منا إلى وقفة فكر وتأمل ! .
ومن الظلم أن ندفن هذا الكنز بالعبرات , وندثره بدثار الحزن و الألم ..فالإمام الحسين وقف رغم كل آلامه و أحزانه وفقده أنصاره و أهل بيته مدافعاً عن قيمه ومبادئه وحفاظاً على دين جده ( إن كان دين محمدٍ لم يستقم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني ) , حتى قال أعداؤه ( ما رأينا مكسوراً قط فقد صحابته و أهل بيته أكثر منه شجاعة و أشد مراساً )!
إن نهج عاشوراء منهج يخاطب العقل بالتفكير والروح بالسمو والقلب بالحزن و الرحمة
وحين نستمع للنعي الحسيني في نهاية المحاضرة .... حين نبكي ...فإن الكلمات لا تثير فينا الدمع فقط بل تحلق بنا في عالم الروح .... وتفتح لنا أبواب العقل ....لذا فإن كربلاء بأساسها منهج ....
منهج الحزن والكرامة والكبرياء والقوة ...منهج الحب والتفاني ...,والتضحية
كربلاء منهج وليست مجرد أحزان وآلام .... وإلا فلا فائدة من إحياءها كل عام .....
فإذا كنت أدعي الحزن وأبكي من صميم قلبي وتنعى روحي الحسين ..... فلتطابق أفعالي ما أنا لأكن سائرة على نهجه ... لأفهم أن ما حدث في كربلاء كان تضحية لأجلنا .. ويجب أن أكون مستحقة لهذه التضحية ...
لأفهم أن ما حدث في كربلاء هو ثورة .... ثورة ضد الظلم .... هو منهج إباء وقوة ....
ومنهج الإيمان الحقيقي ....
الحزن هو البوابة .... البوابة لفهم كل ذاك .... ولكنه ليس الغاية من عاشوراء
فجديرٌ بنا أن أن نرتقي إلى مستوى هذه التضحية , لا أن نحصرها في بوتقة الحزن !
وحري بنا أن نوفي هذا النهج حقه , لينهض بنا في معارج الرقي .
فنحن أولى بذلك كمحبين نمضي على خط الولاء , طالبين نصرته , هاتفين رغم السنين
( لبيك يا حسين ) .
فالسير على نهجه والامتثال بخطه هو نصرته بعد كل هذه المئات من الأعوام .
صرخة الحسين ستبقى مدويةً للأبد يتردد صداها فينا .. هيهات منا الذلة ! .
ومع ذلك .. فالإمام الحسين لم يكن خاصاً بنا وحدنا .. إذ أن جُل البشرية اتخذ منه قدوةً وامتثلت به مناراً للحق رغم أننا الأولى بذلك ..
يقول موريس دوكابري ( يقال في مجالس العزاء أن الحسين ضحّى بنفسه لصيانة شرف وعرض الناس , ولحفظ حرمة الإسلام , ولم يرضخ لتسلط ولنزوات يزيد , إذاً تعالوا نتخذه قدوةً لنتخلص من نير الاستعمار و أن نفضل الموت الكريم على الحياة الذليلة ) .
لقد بقي الإمام الحسين رغم السنين مشعلاً للحق , ومدرسة للمثل والأخلاق والفضيلة , ونهضةً للحياة السامية .. يجب أن تُجدد لتبقى خالدة دون أن تندثر معانيها .. وهذا هو هدف إحياءها ..
ورغم ذلك .. سيبقى الحسين مُخلد .. كلما أخلق الزمان تجدد .
لا ليس موتاً أن يخلد في الثرى ....... جسدٌ ويبقى النهج حياً يذكرُ .