لماذا زيارة الأربعين؟!
في نصف يوم فقط، اختزل الإمام الحسين ومن معه من ولده وصحبه كل قيم التحدي والإباء والصمود، وكتب بخط عريض: "موت في عز خير من حياة في ذل".
نعم.. إن مسيرة حياة الحسين الطويلة مع جده وأبيه وأمه كانت جانباً مشرقاً ومتميزاً، إلا أن ساعات الطف وما دار فيها كانت الأجلى والأكثر تأثيراً في نفوس المجتمعات الإسلامية وغيرشئها، وكأن لحظة الشهادة هي ذاتها لحظة الولادة! فكانت قصة البطولة في عاشوراء محط اهتمام الموالين حتى أن نسبة كبيرة منهم يحفظون رواية المقتل بتفاصيلها على ظهور قلوبهم، ويحييون مراسيم العزاء ويواظبون على أدائها وتطويرها في عاشوراء سنوياً، ومنذ لحظة الحدث تلك بدأت زيارة عاشوراء التي يحييها العالم في الـ 10 من المحرم الحرام.
ثمة حرارة في قلوب المؤمنين تجاه قضية الحسين أخبر بها النبي الأكرم ، في الحديث المشهور: "ان لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد ابدا" كانت وراء امتداد المراسيم بشكل فعلي ورسمي منذ اليوم الأول لشهر محرم الحرام حتى الـ 20 من صفر الخير، وتحديداً بعد اداء زيارة الأربعين المعروفة والتي يتوافد خلالها الملايين من الموالين والمحبين لأبي عبد الله الحسين قاصدين مرقده الشريف، إلا أن ثمة تساؤل يطرح :"اذا كان مصرع الحسين وراء زيارة مرقده في العاشر من محرم الحرام؛ فما هو منشأ ما يعرف بزيارة الأربعين في الـ (20) من صفر كل عام؟"
ويكون الجواب على هذا التساؤل بجملة من الحوادث التأريخية التي تزامنت مع هذا التوقيت وهو الـ 20 من صفر، ليكون الجامع المشترك فيها هو قضية الحسين ومقتله، وسنشير إلى تلك الحوادث بعد أن نذكر جملة من الروايات الواردة في يوم الأربعين تحديداً، وكذلك زيارة الحسين في ذلك اليوم، ومنها ما روي عن الإمام الحسن العسكري إنه قال: "علامات المؤمن خمس صلاة إحدى وخمسين وزيارة الأربعين والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم والتختم باليمين وتعفير الجبين". ولعلها الرواية الصريحة الأكثر شهرة التي يُستدل بها على استحباب زيارة الإمام الحسين بعد مرور أربعين يوماً من مقتله وجعلت هذا العمل المندوب علامة من علامات المؤمن.
أما الرواية الأخرى التي وردت عن الإمام محمد الباقروالذي شهد عاشوراء وهو في مقتبل عمره الشريف، حيث يقول : "إن السماء بكت على الحسين أربعين صباحاً تطلع حمراء وتغرب حمراء...." وفي رواية أخرى ينقل زرارة عن الإمام الصادق أنه قال: "إنّ السماء بكت على الحسين أربعين صباحاً بالدم، والأرض بكت عليه أربعين صباحاً بالسواد، والشمس بكت عليه أربعين صباحاً بالكسوف والحمرة، والملائكة بكت عليه أربعين صباحاً، وما اختضبت امرأة منا ولا اكتحلت حتى أتانا رأس عبيد الله بن زياد وما زلنا في عبرة من بعده". ولا عجب في ذلك فإن الأرض تبكي على المؤمن أربعين صباحاً كما صرح بذلك النبي الأكرم فكيف بقتيل مثل الحسين؟!
إن هذه الروايات وغيرها تتحدث عن تفاعل واقعي للكون والطبيعة مع مقتل الإمام الحسين وقد سجلها التاريخ لكي تصلنا نحن الذين نتساءل عن سر تفاعل المؤمنين مع يوم الأربعين وإحيائه سنوياً المواظبة على زيارته في هذا الوقت تحديداً.
حادثة تأريخية يقدمها جملة من علمائنا المتقدمين كسبب لنشوء مراسيم زيارة الإمام الحسين في الـ 20 من صفر، والتي مفادها أن يوم الأربعين هو اليوم الذي زار فيه جابر بن عبد الله الأنصاري رحمه الله- الإمام الحسين برفقة عطية العوفي حيث ينقل الأخير أن جابراً دنى "مِنْ شَاطِئِ الْفُرَاتِ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ ائْتَزَرَ بِإِزَارٍ وَ ارْتَدَى بِآخَرَ ، ثُمَّ فَتَحَ صُرَّةً فِيهَا سُعْدٌ فَنَثَرَهَا عَلَى بَدَنِهِ ، ثُمَّ لَمْ يَخْطُ خُطْوَةً إِلَّا ذَكَرَ اللَّهَ ، حَتَّى إِذَا دَنَا مِنَ الْقَبْرِ قَالَ أَلْمِسْنِيهِ ، فَأَلْمَسْتُهُ فَخَرَّ عَلَى الْقَبْرِ مَغْشِيّاً عَلَيْهِ ، فَرَشَشْتُ عَلَيْهِ شَيْئاً مِنَ الْمَاءِ فَأَفَاقَ، ثُمَّ قَالَ : يَا حُسَيْنُ ـ ثَلَاثاً ـ ثُمَّ قَالَ : حَبِيبٌ لَا يُجِيبُ حَبِيبَهُ وَ أَنَّى لَكَ بِالْجَوَابِ وَ قَدْ شُحِطَتْ أَوْدَاجُكَ عَلَى أَثْبَاجِكَ.. إلى أخر هذه الكلمات المشهورة.
ويشتهر بين الناس أيضاً وما يتناقله رواد المنبر الحسيني بأن يوم الأربعين هو يوم عودة السبايا وقافلة والحسين من الشام إلى كربلاء، ووصولها إلى محل مصرعه ومن ثم زيارته عليه السلام.
- صفوة القول..
إن زيارة الأمام الحسين لها من الفضل العظيم ما لا يمكن أن يعد أو يحصى، ولا يمكن اختزالها في يوم دون آخر، خصوصاً و إن أيام زائري الحسين عليه السلام "لا تعد من آجالهم" كما يصرح بذلك الإمام الصادق، عليه السلام، مما يجعل الشيعة الموالون في تسابق وتنافس دائم لإحياء مراسيم الزيارة سواء في العاشر من محرم أو الأربعين أو حتى في النصف من شعبان ويوم عرفة فضلاً عن ليالي الجمعة المباركة .