الإمام الرضا والجدل السقراطي (تجاهل العارف)
عُرف منهج (الجدل السقراطي) من قديم الزمان عند الفيلسوف اليوناني القديم سقراط [470 ـ 399 ق م] في المحاورات التي دوّنها عنه يراع تلميذه أفلاطون [428 ـ 348 ق م]، وفيه يضع سقراط نفسه موضع الجاهل، ويسأل الخصمَ سؤالاً تهكمياً نقدياً ذكياً، ويدعه يجيب ويسترسل، حتى يوقع نفسه في شراك التناقض، ومن ثم يلتفت ـ ذاتياً ـ إلى تهافت فكره وتهاويه، وتصادمه المنطقي مع بعضه ومع الحقيقة، فيدين نفسه، ويشعر بانقطاع الحجة، وقيام البرهان الذي ذكره هو، ضده: (يداك أوكتا، وفوك نفخ)، وبذاك يستكشف المعرفة استكشافاً ذاتياً داخلياً، يبعده عن صعوبة تلقي الفكرة من خارجه، والتي قد تبدو له تلقيناً غيرياً متهَماً.
وبهذا فالجدل السقراطي يقوم على دعامتين أساسيتين، هما:
أـ مرحلة التهكم والسخرية؛ عبر السؤال النقدي الذكي المربِك.
ب ـ مرحلة التوليد، حيث يصل الخصم إلى توليد المعرفة بنفسه؛ عبر التفكير التأملي الذاتي في آرائه ومعتقداته وأفكاره، ومحاكمة قناعاته، واستكشاف المعرفة الجديدة، وبذاك ينشأ لديه شعور بأنّ (الحقيقة تكمن في النفس)، لا في الخارج، وأنّ السائل ليس ملهِماً لها، وإنّما كان (أداة وآلة) ـ فقط ـ لإخراجها من قعر الذات، ومن عتمة الظلام.
وهذا المنهج قريب من المنهج الذي استخدمه النبي إبراهيم في حواره مع قومه العابدين للكواكب والقمر والشمس في (أور) بالعراق، والذي أنزل فيه نفسه منزلة القائل بربوبية الكواكب والقمر والشمس؛ ليلبس ذواتهم، ويبعثها برفق لتصل بنفسها إلى الجواب الصحيح الجلي:
﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ: هَذَا رَبِّي، فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ: لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ: هَذَا رَبِّي، فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ: هَذَا رَبِّي، هَذَا أَكْبَرُ، فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ: يَا قَوْمِ، إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾(1).
ومن المواضع التي استخدم فيها الإمام الرضا هذا الأسلوب الحواري أن استدرج (الجاثليق) العالم المسيحي القائل بربوبية المسيح، وقال له: «ما ننقم على عيسى شيئاً إلا ضعفه، وقلة صيامه وصلاته!!«(2)، فاندفع (الجاثليق) بحماس بالغ وبثقة واطمئنان عاليين، وقال: «أفسدتَ ـ والله ـ علمك، وضعّفتَ أمرك، وما كنتُ ظننتُ إلا أنّك أعلم أهل الإسلام....، وما أفطر عيسى يوماً قطّ، وما نام بليل قطّ، وما زال صائمَ الدهر، قائمَ الليل«(3).
وحينما قال الجاثليق ذلك باغته الإمام الرضا بسؤال نقدي ذكي صادم (ضربة معلم)، وقال له: «فلِمَن كان يصوم ويصلي؟!؛ فخرس الجاثليق، وانقطع«(4).
لقد ترك الإمامُ الرضا الجاثليقَ يسرد ويفصِّل غافلاً عن كونه ينسج لفكره شرَكاً، ويحفر لقناعاته حفرة، وأنّ الصفات التي مضى في سردها (صوم عيسى، وقيامه بالليل) إنّما هي صفات للعبد، وليست صفات للربّ، فمن يصلي ويصوم فهو يعبد غيره، وليس رباً وإلهاً يُعبد!!
وهكذا تناقض الجاثليق المؤله لعيسى مع نفسه، وجرّده من رداء (الربوبية)، وألبسه مسوح (العبد)!!