الدافعية والتنمية
الدافعية مرتبة متقدمة من الشعور بضرورة الإقدام على فعل شيء ما
الحاجة إلى التنمية ليست تذكرة سياحية يمكن التراجع عنها، أو تأجيل موعدها إلى فصل آخر، إنما هي ضرورة حياتية لا سبيل لمحبي الحياة سوى خوض غمارها ومواجهة تحدياتها.. تحديات تتبدل وتتبدل معها الأساليب وتتشابك فيها المسببات إلى حد التعقيد.
الإنسان الطبيعي يسعى لتوفير حاجاته بشكل غريزي دون انتظار لتشجيع أو تحفيز، الإنسان الطبيعي يسعى لتوفير حاجاته بشكل غريزي دون انتظار لتشجيع أو تحفيز،
والدولة الرشيدة تقوم بالشيء ذاته. لكن لماذا تتفاوت المستويات، ولماذا نجد الفروقات بين إنسان وآخر وبين دولة وأخرى في تحقيق الإنجازات التنموية؟ لماذا تختلف معدلات التنمية بين دول مجلس التعاون الخليجي مثلاً؟ ولم لا تكون الدول الأوروبية أيضاً متساوية في مؤشرات النمو؟
قد تعود الفروقات إلى التفاوت في مدى توفر بعض المسبّبات مثل النزاهة وضعف مؤشرات الفساد، ووجود مساحة مناسبة من الحرية، وتوافر التشريعات والأنظمة المشجعة للنمو، والاهتمام بتطوير التعليم، ووقوع هذه الدولة أو تلك خارج دائرة المديونيات.. ولكن جميع هذه العوامل أيضاً لا يمكن أن تشكل في مجموعها رافعة اقتصادية من دون وجود عامل آخر هو الدافعية.
الدافعية ليست مجرد رغبة اعتيادية لفعل شيء ما، بل مرتبة متقدمة من الشعور بضرورة الإقدام على هذا الفعل. وفي الاقتصاد تعد الدافعية مرتبة عملية من الإيمان العميق بأهمية المضي نحو التطوير والتغيير، وهي بذلك تشكل عاملاً مهماً يتضافر مع جميع المسببات السابقة لتحقق في مجموعها عوامل التنمية.
ولمعرفة قياس الدافعية ومدى تحققها في دول المجلس يمكننا ذلك عبر قراءة نتائج خطط التنمية الشاملة. لا شك أن دول المجلس تمتلك مقومات تنموية كبيرة، تتمثل في ثروة نفطية هائلة، ومساحات جغرافية، واستقرار أمني، وموارد بشرية، وقد سعت خلال العقود الماضية إلى وضع خطط إستراتيجية للنمو الاقتصادي، ولكنها للأسف الشديد لم تتمكن من تحقيق إنجازات إقتصادية بالقياس إلى حجم التطلعات. فالتنمية الإقتصادية لا تقاس بحجم الإنتاج من النفط، ولا بالواردات من السلع.
إن الإخفاق في تحقيق الإنجازات هو انعكاس لضعف الدافعية لدى الفرد والمجتمع، وبالتالي ضعف أداء الحكومات، ومن بين مؤشرات ضعف الدافعية ما يتعلق بإنتاجية الفرد والمؤسسات في الناتج المحلي الإجمالي. هنا يمكن تسجيل ملاحظتين: الأولى: أننا نجد إحصاءات حول إنتاجية الفرد لكننا لا نجد مثلها حول إنتاجية المؤسسات، وهو ما ينبغي الالتفات إليه وإضافته للمؤشرات الرئيسية في قياس كفاءة الإنتاج والفاعلية. والثانية هي أن بعض المؤسسات لجأت مؤخراً إلى التركيز على ساعات العمل وزيادتها في بعض القطاعات، وكأن المشكلة تتعلق بعدد الساعات.
عندما نتحدث عن الفاعلية في الأداء كمؤشر للدافعية فإننا لا نتحدث عن عدد ساعات العمل وإنما عن كفاءة استخدام الوقت والموارد، فقد نشرت «الإندبندنت» البريطانية تقريراً لمنظمة التعاون الاقتصادي أثبت أن 7 دول من بين أكبر 10 دول من ناحية إجمالي الناتج المحلي السنوي، تقع ضمن قائمة الدول صاحبة الأقل ساعات عمل في العالم وهي: لوكسمبورج، والنرويج، وأستراليا، وسويسرا، وهولندا، وألمانيا، والدنمارك، والولايات المتحدة، وأيرلندا، والسويد».
الخلاصة: هناك فجوة بين الخطط التنموية الخليجية وتنفيذها، ومن الأسباب عدم إيمان الموارد البشرية بها أو انعدام الدافعية لتنفيذها. وإذا كانت الأمور تقاس بخواتمها، فإن النتائج الاقتصادية لدول المجلس تكشف ضعف الدافعية، ومن تجليات ذلك المؤشرات المتدنية لمعدل إنتاج الفرد الخليجي، وهذا يتطلب مراجعة الأسباب ووضع الحلول دون تباطوء أو تأجيل فهو أحق من برامج كثيرة تحظى فعلياً بالاهتمام.