رؤية قرآنية (2)
دعائم الإنجاز
الإنجاز بما هو فعل إنساني يمثل الحصيلة النهائية التي ينتهي إليها الإنسان في مقام العمل تبعاً لما تنطوي عليه نفسه في عقله من العلوم، والمعارف، والرؤى، ولما يحويه القلب من اعتقادات وفضائل ومشاعر، فيما يمثله العقل من مرجعية فكرية تتكفل بتحديد ماهية الإنجاز وأولوياته ضمن آفاقه الخارجية والميدانية، وفيما يمثله القلب من مركز الاعتقادات، والأخلاقيات، والعواطف والمشاعر الوجدانية التي تشكل مصدر الطاقة الروحية والمعنوية التي تنعكس عزيمة وإصراراً في سبيل تحقيق الأهداف المرجوة.
وتكريس الإنجاز في الواقع الاجتماعي، وتحويله من ظاهرة جزئية محدودة في مصاديقها وأفرادها إلى مسيرة اجتماعية متأصلة ممتدة مرهونٌ بترسيخ دعائمه في واقع النفس من خلال تحريك ما فيها من قوى في خط العمل والإنجاز، وذلك في بعدين: البعد الأول: العقل، بالعمل على إثارته، وتحفيز قدراته، وتفعيل طاقاته، وتنويره بالعلوم والمعارف والرؤى السليمة فيما تحمله من نور وهدى ورؤية ودلالة على الطريق.
البعد الثاني: القلب، بتزكيته بالعقائد، والقيم والفضائل، وشده إلى الأهداف والطموحات الرفيعة، فيما يمنحه الاعتقاد والإيمان من الثقة، والرجاء، ومشاعر الأمل التي تنبعث في القلب قوةً، واطمئناناً، وسكينةً، وفيما تبعثه الفضائل والأهداف والطموحات من الطاقة والقوة والإقدام والاندفاع والمسارعة في إنجاز الصالحات.
والكتاب الحكيم في غير آيةٍ من آياته الكريمة تضمن إيضاحاً وبياناً ودلالةً إلى ما يوحيه الإيمان في القلب من تعظيمه سبحانه، والخشية منه، والخوف من حسابه، وما يثيره من الشعور الدائم بالنقص والتقصير في الذات وفي العمل ذاتاً وحركةً، فيما تبعثه تلك المشاعر من الحركة والاندفاع والمسارعة الدائمة في طريق الإنجاز الصالح الرشيد, الذي ينعكس على الحياة بالهدى والصلاح والخير.
قال سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَوَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَوَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَوَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)[1].
والآيات الخمس بمجموعها بيانٌ للخصالِ الإيمانية الرفيعة التي يتصف بها أصحاب الإيمان الخالص التي تبث فيهم روح الانطلاق والمسارعة إلى مواقع الخير وإنجاز الصالحات، ودعوةٌ لكم أيها المؤمنون لما ينبغي عليكم أن تتخلقوا به في قلوبكم من تلك الخصال والفضائل التي تجعلكم تقفون من ربكم موقف الإشفاق والإيمان والوجل، فيما تثيره فيكم تلك المشاعر من الطموح الرفيع، والهمة العالية، التي تنبعث فيكم عملاً وحركةً لبلوغ أعلى مراتب الرضوان الإلهي. وقد تعرضت الآيات الخمس إلى بيان خمس صفات إيمانية:
الصفة الأولى: قوله تعالى :(إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ) بيانٌ للأثر الذي تحدثه خشية الرب العظيم في أعماق قلوبهم فيما تثيره فيهم من الرقة والاهتزاز والتفاعل الوجداني الذي يهيئ قلوبهم لتلقي الآيات الإلهية والتفاعل معها.
الصفة الثانية: قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) الذين يعيشون بعقولهم روح الانفتاح على الحق كله، ويسترشدون بالآيات الإلهية في صفحات الكون أو التشريع فيما تحمله في ذاتها من إثارة وإنارة ودلالة، فلا يغلقون عقولهم أمامها بدافعٍ من هوى أو حزبيةٍ أو عصبيةٍ، بل يتلقونها بقلوبٍ طاهرةٍ نقية تملأها مشاعر الإذعان والتسليم والقبول.
الصفة الثالثة: قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ) الذين محضوا التوحيد محضاً فارتقوا إلى مرتبة التوحيد الخالص الذي لا تشوبه شائبة من شوائب الشرك ولا يلتقي بمرتبة من مراتبه الجلية أو الخفية؛ فهم لا يشركون بربهم لا في الألوهية والعبادة، ولا في الطاعة والمحبة، فجعلوا قلوبهم خالصة لربهم، واستولى حب الله على كل كيانهم ووجودهم، فصارت غايتهم أن يبلغوا رضا محبوبهم بالتقرب إليه بما يرضيه من الأعمال والفضائل.
الصفة الرابعة: قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) الذين يأتون بأعمالهم الصالحة بقلوبٍ خائفةٍ من التقصير والمصير فيما يثيره ذلك الشعور من كثرة المراجعة والمُداقة والفحص في أعمالهم، في تفاصيلها وأحكامها الشرعية، وفي خلفياتها ودوافعها الباطنية، قبل عرضها في المحكمة الإلهية التي لا تغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا وتحصيها إحصاءً، مما يجعلهم يقفون موقف الخائف المقصر، الذي لا تتملكه مشاعر العجب والغرور مهما بلغت أعماله في حُسنها أو في كثرتها.
الصفة الخامسة: (أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) بيانٌ للمحصلة النهائية التي تظهر في أعمالهم تبعاً لما تتصف به قلوبهم من الصفات مما ذكرناه من الرقة والانفعال، والإيمان والإذعان، والتوحيد والإخلاص، والخوف من التقصير والمصير، والتي تبعث في نفوسهم روح المسارعة والمسابقة في الخيرات، فتدفعهم إلى استثمار طاقاتهم وقدراتهم وأوقاتهم وما تسنح لهم من فرص الخير بأفضل صورة ممكنة، إذ أن ما تقتضيه المسابقة في متطلباتها أنهم يستثمرون كل طاقاتهم وقدراتهم الذاتية وما توفره لهم ظروفهم المحيطة بهم من وسائل وإمكانات مادية ومعنوية في سبيل إنجاز الصالحات التي تنعكس على واقعهم خيراً وصلاحاً وهدًى.
وصفوة القول من مجموع ما أوضحناه، أن تكريس الإنجاز الصالح في واقعنا الاجتماعي ينبغي أن يكون بتثبيت دعائمه وتشييد أركانه في العقول والقلوب معاً، إذ لا ثمرة حقيقية إلا بهما جميعاً.