قصة الحسين.. الحقيقة المغيبة
يزدحم المشهد الثقافي العربي المعاصر بالكثير من الرموز والأسماء اللامعة التي مارست جهداً ما داخل إطـار الأمة أو خارجة، فعند من يتغرب في وعيه تراه يستحضر في قراءته الثقافية رموز النهضة الأوربية كـديكارت، اسبينوزا، هيجل، ماركس و و.. غيرهم، من أسماء فكرية لامعة قامت بجهد في بناء صرح الحضارة الأوربية، وتراه يغيب عن قصد أو غير قصد الكثير من رواد النهضة، وبالأخص من يعيشون على الضفة الأخرى أيديولوجيا، وهم الذين أسسوا مرتكزات النهضة، كالعلماء المسلمين الذين أثروا البشرية بجهودهم ومكتشفاتهم، أما عند من يتأسلف ( السلفية)، فالإقصاء يأخذ شكلاً تشويهياً وتغييبياً في أغلبه متعمداً، هنا عندما يذكر لنا رواد النهضة الإسلامية تراه يمارس إلغاءً كاملاً للآخر المختلف معه فكرياً، فالسلفي عندما يقرأ المشهد الثقافي المعاصر، يمارس فعلاً إرجاعياً ناقصاً، فالثقافة، والعقيدة، والأمة، يرجعها إلى رموز الحركة السلفية التاريخية، فلا تكاد ترى إلا شرذمة قليلة ممن قاموا بأدلجة الصراع داخل الأمة.
ولعلنا إذا قرأنا المشهد الثقافي العربي والإسلامي المعاصر نلحظ تغييباً واضحاً لعدل القرآن الكريم، الذي أمرنا الرسول الأكرم بإتباعهم، وهم أهل البيت الذي جعلهم الوحي على لسان الرسول سفن النجــاة لمن يتمسك بهديهم فقد قال الرسول الأكرم : مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق.
ومن حقنا بعد ذلك أن نتساءل لماذا غيبت الثقافة العربية والإسلامية المعاصرة شخصيات أهل البيت النبوي الطاهر، مع وجود كل الروايات التي وردت عن الرسول في الاهتمام بشأنهم وأتباعهم وعدم التقدم عليهم؟
وللإجابة على هذا التساؤل المشروع والمهم، يمكننا القول أن المنتج الثقافي داخل الإطار الإسلامي انقسم إلى أربع فئات هي:
الفئة الأولى: الشيعة الموالون لأهل البيت .
وقد اعتبرت هذه الفئة أهل البيت امتداداً لنهج الرسول ولأهـداف الإسـلام الدين الخاتم للأديان، وهؤلاء هم المتابعون والمشايعون للأئمة من أهل البيت ، وطبيعي أن يكون النتاج الثقافي لهؤلاء مستمد من مرويات الأئمة .
وقد استحضر الشيعة شخصيات أهل البيت وجعلوهم قدوات يسيرون على خطاهم ويترسمون نهجهم، وكان الحسين الذي يمثل في نهضته كل القيم التي بُعث من أجلها الرسول ،الأوفر نصيباً،لأنه كما يمثل قيم الإسلام، فهو الامتداد لجميع الرسالات كما نقرأ ذلك في زيارة وارث ،ولأنه يمثل كل الأئمة .
وبما أن التشيع بما يكتنفه من قيم رسالية وروح نهضوية يأبى الركون للظلم والتخلف والجمود أمام حركة الحياة، فهو يزرع حالة من الشغف الشديد لإعادة تجربة حكم المعصوم، واستحضار الشيعة في شهر محرم من كل سنة هجرية لقضية الحسين هي دلالة واضحة على هذه الرغبة، فالحسين سعى لإصـلاح وضع الأمة وإعادتها إلى مسارها ومسيرتها فقال: إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله ، وبما أن الشيعي يعيش واقعاً سياسياً ضاغطاً وكابتاً لأدنى الحريات الطبيعية، فهو في كل آن يستحضر السياسة الأموية التاريخية، فالآخر يمارس السلوك الأموي سياسياً، وعقائدياً، واجتماعياً، واقتصادياً، وهنا يتم استدعاء النهضة الحسينية التي لازال يشعر بالحاجة إلى قيمها وفكرها وثقافتها، كي يستعيد القدرة على الموجهة في حياته المعاصرة، وهنا يلتقي الشيعي مع إمامه ليحققا الهدف(إصلاح الأمة وإرجاعها لقيم الإسلام).
لازال العقل الشيعي يشعر بالمواجهة مع الفكر الأموي، الذي مثل يزيد بن معاوية أقبح صوره، يزيد المستبد، الطاغية، المستهتر بالدين، هادم الكعبة، مستبيح مدينة الرسول، قاتل ابن الرسول وفلذة كبده الحسين بن علي بن أبي طالب، وقد سارت السياسية الأموية على ذات النهج، والشيعي لازال يشعر بأنه مستهدف من كل السياسات اليزيدية المعاصرة، كما كان مستهدفاً في تاريخه، ففي كل بقعة يشعر بوطأة الممارسة الأموية تجاهه، ولا زال تـراث الأمويين الثقافي والأيديولوجي يستدعيه الآخرون لموجهة قضية الحسين ( الإصلاح)، وهنا يشعر العقل الشيعي أن هذه القضية متجددة بصورة دائمة، ولهذا ترى شعاره الذي يرفعه في كل حين هو (كــل أرض كربـلاء، وكــل يوم عاشــوراء).
الفئة الثانية: الموالية للفكر السلطوي.
هذه الفئة تنظر للأئمة من أهل البيت من الزاوية السلطانية "المعاصرة" التي تعتبر في أيديولوجيتها امتداداً للإرث السلطاني التاريخي، وبما أن حركة الوضع ( الأداة الإعلامية) الأموية قد قامت بتأسيس الأبنية العامة التي ترتكز عليها السلطة المستبدة، وأنتجت إيديولوجيا وفكراً مغايراً ومخالفاً تماماً للعقيدة والفكر الرسالي لأهل البيت ، بل جعلت ووجهت الأيديولوجيا السلطانية ضد التحرك النهضوي للأئمة، وسعت لإبعاد الأمة عنهم، وفي عصرنا الراهن عندما يستدعي المنتجون للثقافة في الأمة هذا الإرث السلطاني الأموي، فمن الطبيعي أن يغيب الأئمة من أهل البيت عن التأثير في مسارات هذه الثقافة المعاصرة وفي تحريك مسيرتها.
هكذا نرى أن الثقافة العربية والإسلامية المعاصرة صادرة في نظرتها لأهل البيت ، من ذات الإرث الأموي، ولو قرأنا إنتاج الجابري مثلاً وهو يعتبر نفسه مفكراً ومؤسساً لمشروع فكري حديث لرأينا النزعة الأموية واضحة في حضورها وتأثيرها في مجمل إنتاجه، حتى نكاد نجزم بالقول انه منظر الأمويين في العصر الراهن.
الفئة الثالثة: السلفية المتعصبة
من الادعاءات العجيبة التي طلع علينا بها الاتجاه السلفي المتعصب قوله أنه هو الوحيد الذي يتبع أهل البيت، وأن الآخرين بعيدون عن منهج العترة الطاهرة، وإذا أردنا أن نختبر هذه المقولة من خلال تلمس منهج أهل البيت في فكرهم وسلوكهم ونتاجهم الثقافي لم نجد له أثراً، بل على العكس تماماً، حيث تجد أن روايات أهل البيت الطاهر مستبعدة عن جميع الحقول المعرفية، فالفقه، والتاريخ، وعلم الحديث دراية ورواية، وعلم التفسير، والعقائد، كلها تفتقد لتراث أهل البيت، بل على العكس تماماً نجد تمجيداً لكل من حارب أهل البيت ومارس بحقهم أشد أعمال العنف والارهاب والقتل، حتى أن البخاري لم يرو أي نص عن الإمام الصادق الذي يعد رائد مدرسة ألوحي والإمامة، وعندما سئل عن أسباب ذلك قال: إن في النفس منه شيء، بينما يروي للنصاب والخوارج، وبالطبع ليس في نفسه على هؤلاء شيء.
إن السلفية الحديثة هي نتاج أصيل للثقافة والفكر والعقيدة الأموية، ويتضح ذلك من خلال استدعاء كل رموز الدعاية الأموية وتمجيدها، فمعاوية الذي حارب علي بن أبي طالب يمثل عندهم كاتباً للوحي، ويزيد أبنه يصبح أميراً للمؤمنين، ومروان بن الحكم يعد بطلاً حافظ على وحدة الأمة من خلال الحفاظ على وحدة الدولة الأموية ومحاربة الخارجين عنه، وهكذا يتسرب الفكر الأموي في كل ما تنتجه السلفية المعاصرة، وعندما تكون قادرة على البطش والارهاب والقتل فإنها لا تفوت تلك الفرصة دون إحداث أكبر قدر ممكن منه، كما حدث في أفغانستان حيث أباد الطالبان قرى كاملة بحجة أن أهلها من الشيعة، وما يحدث الآن في العراق من عمليات القتل والارهاب خير دليل على الفكر الأموي الذي سيطر على العقلية السلفية، وهي ذات السياسة التي حاربت كل من يتهم بأنه يحب علياً وأبناءه ونكلت بهم قتلاً وتشريداً.
وإذا كانت السلفية المتعصبة المعاصرة تستدعي ذات المنتج في العصر الأموي فمن الطبيعي أن يكون الحسين وفكره وأتباعه وقضيته غائبة عن كل ما تنتجه آلتهم الإعلامية، بل يكون الحسين وفكره محارباً ومطارداً كما كان في التاريخ الأموي، وبالفعل لا تجد أي نص وأي موقف للحسين في النتاج الفكري والثقافي والفقهي والعقائدي لهذا الاتجاه، بل تجدهم في كل الحقول المعرفية يستشهدون بمواقف شخصيات ليس لها شأن علمي بارز ويتركون كل ما روي عن الحسين في كل تلك الحقول المعرفية، وعندما كتب أحد الفقهاء المعاصرين كتاباً عن فقه الزهراء تعجب أحد رموز الاتجاه السلفي قائلاً: وهل كان لفاطمة فقه أو روايات ونصوص يمكن الاستفادة منها في استنباط أحكام شرعية.
إن الاتجاه السلفي قام بعملية بناء الصرح الفكري والعقائدي انطلاقاً من تلك المرويات التي أنتجتها الآلة الإعلامية الأموية والتي كان غالبها منصباً ضد العترة الطاهرة لكونها تمثل منهج الحرية والحق والرسالة، وبالرغم من جهود بعض العلماء لتنقية مصادر التراث من تلك الموضوعات إلا أن أغلبها أخذ طريقه لبناء عقلية مناهضة لفكر ومنهج أهل البيت، لهذا من الطبيعي أن يخرج علينا شخصاً يمثل تيار السلفية المعاصرة وينتقد كل مظاهر عاشوراء والتي يظهر فيها شيعة أهل البيت حزناً وألماً وجزعاً لما أصاب الحسين وأصحابه وأهل بيته في كربلاء، ويقول أن يوم العاشر ينبغي أن يكون يوم فرح وسرور لا يوم حزن ومصيبة، وبالطبع كان هذا رد الفعل الذي قام به الأمويون عندما تم لهم قتل الحسين ومن معه، وأصبح هذا اليوم غي الفكر الأموي عيداً يصومونه ويوسعون فيه على عيالهم ويظهر الفرح والسرور والابتهاج، ولا نستغرب إذا قامت السلفية المعاصرة باستدعاء تلك السياسة تجاه قضية عاشوراء.
الفئة الرابعة: المثقفون المستلبون.
تمثل كربلاء مدرسة معرفية تحمل الإجابة عن كثير من التساؤلات المعاصرة، فهي رغم حدوثها عام 61 للهجرة النبوية، إلا أن الفكر الشيعي لا زال يتلمس طريقه في العالم المعاصر من خلال قراءة متجددة للحدث وما رافقه من ضخ فكري متواصل مارسه الحسين وموز النهوض معه، وما جاء بعد ذلك من قراءات متواصلة لذات المدرسة، حيث مثل الأئمة من ولد الحسين امتداداً لفكر ومضمون خط سيد الشهداء، وأبرز ما نلمحه في مدرسة كربلاء هو التأسيس للحرية والنهوض بالأمة في كل جوانبها المعرفية والعملية، ولعل ما واجه الشيعة في العصر الحديث من الكبت والارهاب من المؤسسة الرسمية والتيارات السلفية هو نتيجة هذا التوق لتحقق مضامين مدرسة كربلاء في واقع الأمة.
كربلاء كانت مواجهة بين خطين مثل أحدهما امتداداً للرسالة ومثل الآخر امتداداً لخصوم الرسالة، ومن الطبيعي أن يكرس الخط الأول مفاهيم الرسالة في الواقع العام للأمة من خلال التأسيس للقيم النهضوية التي تتكفل بتغيير العقلية الجاهلية التي قام الخط الآخر بزرعها في المجتمع وتكريس كل مفرداتها التي أبرزها إقصاء كل نتاج وكل ما يتعلق بالحسين وما حدث له في كربلاء، وقد تأثر بهذا الإقصاء التيار الثقافي المستقل فكرياً عن المؤسسة الرسمية وعن التيارات السلفية، لكن سياسة الإقصاء أثرت بشكل كبير في إبعاد قضية كربلاء عما يفكر فيه هذا التيار المستلب، إذ قامت المؤسسة الرسمية والتيارات السلفية عبر التاريخ الطويل لتصفية التراث الديني من كل ما يمت بكربلاء، بل قامت بعض التيارات السلفية التاريخية إلى تشويه تلك القضية التي مثل فيها الحسين كل مفاهيم العدالة والتضحية والنهوض والتغيير، ومثل الآخر كل مفاهيم الوحشية والظلم والاستبداد.
هذا التيار الثقافي المعاصر مستلب تاريخياً ودينياً، إذ أثر تزييف التاريخ من قبل المؤسسة الرسمية عبر الزمن في غياب القضية عن ما يفكر فيه وما ينتجه، ودينياً أسهمت الاتجاهات السلفية في تشويه قضية كربلاء، وهنا تكمن رسالة الفئة الأولى الموالية لأهل البيت في توضيح مسألة كربلاء وما هي الرسالة التي نستلهمها من هذه المدرسة العريقة التي تسعى لنشر الحرية والعدالة، وعلينا أن نبدأ حواراً من هذه الفئة لنوضح لها معالم قضية كربلاء التي تمثل قضية الرسول الأكرم.