العلّامة الحلّي الثاني (الورع سجيته)
قد كان آية اللـه الشيخ حسين الحلّي (رضوان اللـه عليه) (١)، احد تلامذة الشيخ ضياء الدين العراقي،و الشيخ محمّد حسين الغروي النائيني،والسيّد أبو الحسن الموسوي الأصفهاني (رضوان الله تعالى عليهم)، كان متضلّع في الفقه والأصول؛ فكان جاريًا على كلّ لسان من ألسنة أهل الفنّ في حوزة النجف، فقد كان من أبرز تلامذة المرحوم النائينيّ (قدّس سرّه)، بل كان الكثير من العلماء يرجّحونه على أستاذه. وقد وصلت دقّة نظره وإحاطته بالمدارك الفقهيّة أحيانًا إلى حدٍّ يُثير الإعجاب، فكثيرًا ما كان يأتي أثناء بحثه بروايةٍ أو كلامٍ من أبحاثٍ أخرى؛ لم يكن أحدٌ يتوقّع أن يكون لها دخالةٌ في إثبات المطلب الذي هو فيه أو تأييده. وفهم هذه النكتة ممّا لا يتيسّر لغير الخبراء بمباني الاستنباط والمجتهدين المتضلّعين.
كان يلقي درسه في مرحلة السطح العالي، وكان يحضر درسه ثُلَّة من الطلبة المشتغلين بالتحصيل من المنبع الأصيل، فكانوا يستفيدون من علمه الغزير، ويستقون من معين فضله الكبير، وكان له طريقة فنّية في التدريس قلَّ نظيرها، وهي أنّه عندما يشرع في البحث يتناول المسألة الفقهية أو الأُصولية، فيقلِّب فيها وجوه النظر، ويبيّن أقوال العلماء المؤيّدين والمفنِّدين، ثمّ يناقش بعض الأقوال التي تستحق المناقشة على ضوء الأدلّة والقواعد العلمية.
وكان من طريقته في البحث أنّه لا يذكر رأيه الصريح في المسألة المبحوث عنها، وعندما ينتهي من إلقاء بحثه يجتمع طلاّبه حوله، فيسألونه عن رأيه في المسألة فكان يجيبهم بقوله: هذا عملكم.
ومع علمه الذي يعترف به أهل زمانه من الفقهاء والعلماء والمحققين ، إلا أنه لبس جلباب إنكار الذات ، وهنا ننقل ما يقول العلّامة الطهرانيّ (رضوان الله عليه) في هذا المجال:
كان أستاذنا آية الله الشيخ حسين الحلّيّ ... كلّما سُئل عن مسألة- سواء في وقت الدرس أم خارجه (كأن يُسأل مثلًا عن فتواه ورأيه في بعض المسائل)- ينظر إلى السائل ويقول:
ما لي- وأنا أحمق- والفتوى؟! إنَّ شغلنا ليس أكثر من مطالعة الكتب، والحصول على بعض المطالب، ثمّ نبحث ذلك مع الزملاء!
ومما ينقل عنه ايضًا في درسه وقد تتطرّق إلى ذكر الرواية المعروفة: «وأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ صَائِنًا لِنَفْسِهِ، حَافِظًا لِدِينِهِ، مُخَالِفًا عَلَى هَوَاهُ، مُطِيعًا لِأَمْرِ مَوْلَاهُ، فَلِلْعَوَامِّ أَنْ يُقَلِّدُوه»الوارده في كتاب الاحتجاج، ج 2، ص 458؛ وسائل الشيعة، ج 27، ص 131، فكانت دموعه تتساقط من عينيه عند قراءته لها، ويقول: هذا المقام إنّما يليق بشأن خواصّ السالكين للطريق، الواصلين إلى الحريم الإلهيّ، لا بأمثالي أنا الـ ... الذي لا خبر له بهذه المقامات ولا معرفة لديه؛ فهذه المقامات لا علاقة لنا بها، بل نحن غرباء عن كنهها وحقيقتها.
ترك تراثًا علميًا ضخمًا لا يزال معظمه مخطوطًا، وقد طبع منه موسوعته الاصولية في اثني عشر مجلدًا، كما طبع بعض تراثه الفقهي وهو (شرح العروة الوثقى).
اُنظر: ماضي النجف وحاضرها 3 /284.3ـ أُصول الفقه 1/المقدّمة: 49.4.