المثقف ممارسا للقمع
جدلية المثقف والسلطة من الجدليات الراسخة في ثقافتنا العربية، فالمثقف دائم التبرم من حالة الإقصاء والتهميش والبعد عن التأثير في مراكز القرار. وهذا بلا شك مظهر من مظاهر التخلف الذي وجد في مجتمعنا العربي حواضنه الأثيرة.
ولكننا في هذا المقال سنتعرض للمثقف ممارسا للقمع لا مقموعا، وبالطبع فالمثقف لا يمتلك من أدوات القمع السلطوية بمعناها المتداول شيئا، ومع ذلك فهو يمارس القمع بما أوتي من أدوات تحدث من الآثار السلبية ما لا تستطيعه أدوات السلطة. إن كثيرا من المثقفين الذين ينظّرون لمفاهيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان وينعون على المجتمع تغييب العقل والمنطق والتجريب يعانون من نفس الأمراض التي يدعون تشخيصها عند غيرهم، فالمثقف الحداثي مثلا يقولب الآخر المغاير في صورة نمطية تتسم بالسكون والجمود وقصر النظر والانكفاء على الذات واجترار إشكالات الماضي. وتفرض عليه هذه الصورة النمطية التي لا تفرق بين مغاير وآخر إطلاق الأحكام المتعنتة على أفكار الآخر ونتاجاته، فلو قدم هذا الآخر مثلا دراسة نقدية لإحدى المدارس التي ينتمي لها الحداثي سيجد نفسه محاصرا في سجن حداثي يدينه دون أن يقدمه للمحاكمة. والحال ليس بأفضل عند الطرف الآخر، فهو أيضا قد يمارس القمع متهما كل حداثي بالردة وعدم استيعاب التراث والانبهار بالغرب.
إن القطيعة بين المثقف والمثقف تتمظهر في واقعنا الاجتماعي بأشكال شتى، فمعظم مؤسساتنا الثقافية يسيطر عليها الفكر الواحد والشلة الواحدة، ومن أراد أن يقتحم سور هذه المؤسسة أو تلك فإنه يحتاج إلى تأشيرة دخول قد يحصل عليها بعد فحص منظوماته الفكرية والتأكد من نقائها وطهارتها، وأنها تطابق مواصفات ومقاييس الجودة حسب تصنيف كهنة المؤسسة التي يريد اقتحامها.