(34)
القاهر الحكيم
جاء في تاج العروس للزبيدي: القَهْرُ: الغَلَبَةُ والأَخْذُ من فَوْقٍ عَلى طَرِيقِ التَّذْلِيل.
وفي التحقيق للمصطفوي، فسّر القهر بأنه "إعمال الغلبة، أي الغلبة في مقام الإجراء والعمل" ثم قال: "ولا يستعمل أحدهما في مقام الآخر، فلا يقال - فأمّا اليتيم فلا تغلب ... فإنّ الغلبة ثابتة موجودة على اليتيم، دون القهر".
كما فسره السيد محمد حسين الطباطبائي في كتابه (تفسير البيان في الموافقة بين الحديث والقرآن) بقوله: "هو الغلبة بإعمال الاقتدار، ولذا قيّد بما يدل على الاستعلاء، كما في قوله: (غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ) مع كونه متعديا". وقال في الميزان: القهر هو نوع من الغلبة ، وهو أن يَظهر شيء على شيء فيضطره إلى مطاوعة أثر من الغالب يخالف ما للمغلوب من الأثر".
ويمكننا من هذه التعاريف وغيرها أن نستنتج أنّ القهر هو عبارة عن ممارسة الغلبة على سبيل إذلال الآخر. وقد نهى الله تعالى عن ذلك في حق اليتيم بقوله: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ). كما حكى عن فرعون قوله مفتخرا ومعتزا بقاهريته على بني إسرائيل، وممارسته أشد أنواع العذاب بحقهم: (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ). ففرعون في هذه الجملة الاسمية القصيرة المؤكَّدة يؤكد لخاصّته ومستشاريه تمكنه التام من موسى وقومه، فهو يمارس القهر عليهم منطلقا من فوقيته الاستعلائية، التي لا ترى في الآخرين بشرا يستحقون الحياة: (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ). وهذا ليس بغريب عليه، فقد كان يخاطب ملأه الذين هم كبار قومه بقوله: (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي)، فكيف سيكون خطابه مع المستضعفين: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).
إن عدم أو ضعف شعور الإنسان بقاهرية الله تعالى وقهّاريته يؤدي به إلى الطغيان: (كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى). ومن هنا جاءت الآيات مذكرة الإنسان بالله الواحد القهار. يقول تعالى: (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) فهو سبحانه الغالب على أمر عباده، يتصرف فيهم كيف يشاء، ولا رادّ لمشيئته، ولكنه لا يفعل ما يفعل جُزافا، بل كما قال عن نفسه: (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ). يقول الشيخ ناصر مكارم في كتابه (نفحات القرآن، ج4، ص315): "وعندما تُستعمل كلمة (قاهر) و (قهّار) بخصوص الله سبحانه وتعالى فإنها تأتي بمعنى التغلب على جميع الجبابرة، والتسلط على جميع المخلوقات، وعجزها جميعا إزاء إرادته وأمره عزّ وجلّ، بحيث لا يستطيع أي موجود أن يحول دون مشيئته وإرادته". ويقول أيضا: "والبلاغ الذي تحمله هاتان الصفتان الإلهيتان في طياتهما للمؤمنين، هو أنهما تحذران المؤمنين من غرور النفس والظلم والشعور بالتسلط والغلبة، لأن غرور السلطة كان مصدر الكثير من التعاسة وحالات الفشل الذريع على مدى التاريخ، بل يجب عليهم أن يعتبروا أنفسهم مقهورين لإرادة الله، ويعتقدوا بأن ليس لقدرتهم أدنى تأثير على الإرادة الإلهية، ولا ريب من أن الانتباه إلى قاهرية وقهارية الله يمكنها أن تصد الإنسان عن التهور عند الغلبة".
هكذا يكون لاستحضار هذه الصفة الإلهية العظيمة الأثر الكبير في تهذيب الإنسان وتشذيب أفعاله، فلا ينحرف عن جادّة الطريق، وإن امتلك أسباب القاهرية، بل تراه يتحرى العدل في كل شأن من شؤونه: (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً . قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً . وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً)