(45)
مفردة الحكيم ومقارناتها
(الحكيم) من أسماء الله تعالى (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى). ولهذا الاسم معنيان: الأول: هو الإحكام والإتقان في الفعل، ففعلُه تعالى في منتهى الإتقان والكمال، كما عبر عنه القرآن: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) وقال: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) وقال: (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ). وثانيهما: أنه تعالى لا يفعل قبيحا، ولا يخل بواجب، فهو منزه عن الأفعال الظالمة والعابثة: (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) وقال: (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ).
وقد اقترن هذا الاسم (الحكيم) في القرآن بعدد من أسمائه الحسنى الأخرى، فأتى مقرونا بالعزيز وبالعليم وبالخبير وبالتواب وبالحميد وبالعلي وبالواسع. وكان أكثر اقترانه بالعزيز، حيث اقترن به في أكثر من 40 موردا، بينما اقترن بالعليم في أكثر من 30 موردا، وبالخبير في أربعة موارد، وبالتواب والحميد والعلي والواسع في مورد واحد لكل منها. ولا شك أن لذلك الاقتران في جميع موارده دلالات عظيمة ينبغي التوقف عندها ومحاولة الاقتراب منها، رغبة في المزيد من الانتهال من معارف الكتاب المجيد.
سيقتصر حديثنا في هذه المقالة حول اقتران الاسمين (العزيز الحكيم):
تظهر عظمة هذا الاقتران في قوله تعالى معرّفا ذاته المقدسة: (يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). وفي هذين الاسمين طمأنة لموسى (عليه السلام) بأن المخاطِب له هو الله الغالب على أمره، الذي لا يقهره شيء، والذي لا يفعل ما يفعل إلا بحكمة وإتقان، ولا يتطرق لفعله لغو أو عبث أو ظلم.
وتظهر تلك العظمة أيضا في قوله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). فخاتمة هذه الآية بهما في موضع التعليل لما سبق ذكره في الآية الشريفة من شهادة الله لنفسه وشهادة ملائكته وأولي العلم؛ كما يقول صاحب تفسير مواهب الرحمن: "أي: من كان في كمال القدرة والعلم والحكمة البالغة، يقتضي أن يكون واحدا في ذاته وفي معبوديّته وفي تشريع القوانين، وأن العدالة تقتضي أن يكون قهّارا عزيزا عليما حكيما، فهو تعالى حقيق بالوحدانيّة، لأنه المتفرّد بالعزّة، وأن ما سواه تحت سلطته وقهّاريته، وهو المتفرّد في حكمته ، عالم بأسرار خلقه المطّلع على المصالح، ولا يُنتقض حكمه ولا يُردّ أمره ، ويستفاد من الآية المباركة تمام الثناء وكمال التعظيم له عزّ وجلّ" . وقد ورد هذا المعنى مؤكدا في نفس السورة في قوله تعالى: (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
وتظهر العظمة ثالثة حين يخبر تعالى بأن له وحده المثل الأعلى: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
وتظهر العظمة رابعة حين يختم إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) دعاءهما بهذين الاسمين، سائلين الله أمرا عظيما سيكون حدثا استثنائيا ورحمة للعالمين كافة: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
وتظهر خامسة حين يقترن نصر الله بهما: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ).
وهكذا يمكننا تتبع الآيات لاكتشاف عظمة اقتران هذين الاسمين في كل مورد وردا فيه، وكذلك سر اختيارهما في ذلك المورد دون غيرهما.
قد يكون الإنسان عزيزا في الظاهر، أي ذا قدرة مهيمنة مسيطرة، ولكن حين لا يكون حكيما وقتها، فإن ذلك سيؤدي به إلى أن يعيث في الأرض فسادا ويهلك الحرث والنسل بسبب فائض القوة الذي لديه المفتقد للحكمة.