خلافة الله في الأرض من شؤون توحيد الربوبية
من الأمور التي لا يختلف عليها اثنان هو وجود نظام لتسيير الحياة البشرية والإنسانية على وجه البسيطة على كل الأصعدة ( في الدين وفي والمجالات الحقوقيّة والاجتماعيّة والماليّة )، وهذا النظام هو وجود المجتمع البشري في ما يسمى "بالدولة"..!!
فوجود الدولة ليس أمراً تقتضيه وتؤكّده الحياة المعاصرة التي اشتدّت فيها الحاجة إلى الحكومة فحسب، بل كانت موضع تأكيد كبار الفلاسفة والمفكّرين في التاريخ القديم أيضا، فيقول الفيلسوف الكبير أرسطو ( السياسة:96 ترجمة أحمد لطفي ) :
إنّ الدولة من عمل الطبع، وإنّ الإنسان بالطبع كائن اجتماعيّ، وإنّ الذي يبقى متوحّشاً بحكم النظام لا بحكم المصادفة، هو على التحقيق إنسان ساقط أو إنسان أسمى من النوع الإنسانيّ..!!
ويقول أفلاطون ( الجمهوريّة بتلخيص ) :
أنّ أفضل حياة للفرد لا يمكن الحصول عليها إلاّ بوجود الدولة، لأنّ طبيعة الإنسان مآلها إلى الحياة السياسيّة، فهي من الاُمور الطبيعيّة التي لا غنى للناس عنها..!!
ويقول بن خلدون ( مقدّمة ابن خلدون:41 – 42 ) :
أنّ الإنسان مدنيّ بالطبع، حتى ينتهي بإثبات هذه الضرورة وهي إيجاد الحكومة والدولة..!!
ويقول أحد المعاصرين وهو ثروت بدوي (النُّظم السياسيّة:1- 7 ) :
إنّ أوّل مقوّمات النظام السياسيّ هو وجود الدولة، بل إنّ كلّ تنظيم سياسيّ للجماعة يفترض وجود الدولة، حتّى أنّ البعض يربط بين مدلول السياسة وفكرة الدولة، ولايعترف بصفة الجماعة السياسيّة بغير الدولة..!!
إذا يتضح من هذا السياق ضرورة وجود دولة تحيط بالمجتمع البشري لتنظيمه وتسييره ليمضي قدماً ليكون مجتمعاً متكاملاً من كل النواحي، ولكن في ظل الدولة والحكومة الإسلامية، كيف يجب أن تكون هذه الدولة وهذه الحكومة ومن ذا الذي يرسم لها طريقها..؟؟
هنا الأمر يتعلق بوجود النظام الإلهي الرباني، وأن الحاكم ( السلطة التفيذية ) يجب أن يكون له علاقة بالسماء كي يكون قوله وفعله وتقريره موافقاً لهذا الشأن الإلهي، فلا يحكم إلا بما أنزل الله عزَّ وَجَّل، فيجب أن يكون هذا الحاكم عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ، لأن الله سبحانه وتعالى يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ، وهو سبحانه وتعالى عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ..!!
فقد تجلى هذا الواقع كالنار على المنار وكالشمس في وضح النهار بعد بعثة الرسول الأعظم صلوات الله عليه وآله، فعندما هاجر إلى المدينة، أسس الدولة مباشرة بعد وصوله فأقام كل الأسس التي من شأنها أن تجعل المدينة المنورة دولة إلهية بكل ما لهذه الكلمة من معنىً، فمارس كلّ ما هو من شأن الحاكم السياسي من تشكيل جيش منظّم، وعقد معاهدات ومواثيق مع الطوائف الأخرى، وتنظيم الشؤون الإقتصاديّة والعلاقات الإجتماعيّة ممّا يتطلّبه أيُّ مجتمع منظّم ذو طابع قانونيّ، وصفة رسميّة وصيغة سياسيّة، واتخاذ مركز للقضاء والإدارة متمثلاً في مسجد رسول الله صلوات الله عليه وآله، ووضع رواتب وعين المسؤوليات الإداريّة، وووجه رسائل إلى الملوك والأمراء في الجزيرة العربيّة وخارجها، وسير الجيوش والسرايا..!!
وبذلك يكون الرسول الأعظم صلوات الله عليه وآله أوّل مؤسّس للدولة الإسلاميّة التي استمرّت من بعده، واتّسعت، وتطوّرت وتبلورت، واتّخذت صوراً أكثر تكاملاً في التشكيلات والمؤسّسات وإن كانت الأسس متكاملةً في زمن المؤسّس الأوّل صلوات الله عليه وآله..!!
والسؤال هو:
هل خلافة الله في الأرض مستمرة أم توقفت بعد شهادة الرسول صلوات الله عليه وآله، وخصوصاً مع وجود نص إلهي بالإنقلاب..؟؟ فقال سبحانه وتعالى :
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ...آية 144 سورة آل عمران..!!
هل من عدل الله عز وجل ترك الناس دون راعٍ يرعاها، وبعد ذلك يحاسبهم..؟؟
أم هل من عدل الله، علمه بهذا الإنقلاب على الأعقاب، ثم لا ينصب من يخلفه بعد شهادة رسوله صلوات الله عليه وآله..؟؟
يقول عز وجل :
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ...آية 25 سورة الحديد..!!
والسؤال المطروح:
كيف يقون الناس بالقسط دون وجود خليفة الله في الأرض بعد شهادة الرسول صلوات الله عليه وآله وقد وصف سبحانه وتعالى أناساً بأنهم هم من يعلمون تأويل الكتاب دون غيرهم، فقال جل شأنه :
هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ...آية 7 سورة آل عمران..!!
إذاً هؤلاء الذين يقول عنهم الله عز وجل أنهم « الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ » من الذي يحددهم ويعرفهم للناس..؟؟
قد يقول ساءلٌ بأن الذي يحدد ذلك، هم العلماء، نسأل:
وكيف يعلم هذا العالم أو ذاك بأن هذا الشخص أو ذاك هو من الراسخين في العلم الذين يعلمون التأويل الصحيح بلا ريب وهو لا يعلم التأويل الصحيح للكتاب أصلاً..؟؟
فهذا ما لا يدعيه أحدٌ أبداً لا قديماً ولا حديثاً، فأمر هؤلاء لا يعلمهم إلا الله جل وعلى وهو الذي يُخبر بهم ويحددهم تبارك وتعالى..!!
يقول سيدي ومولاي الإمام الرضا صلوات الله وسلامه عليه (علل الشرائع:253 ) :
إنّا لانجد فرقةً من الفرق ولا ملّةً من الملل بقوا وعاشوا إلاّ بقيّم ورئيس لما لا بدّ لهم منه في أمر الدّين والدُّنيا، فلم يجز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق لما يعلم أنّه لابدّ لهم منه، ولا قوام لهم إلاّ به فيقاتلون به عدوّهم ويقسّمون به فيئهم، ويقيمون به جمعتهم وجماعتهم، ويمنع ظالمهم من مظلومهم..!!
إذاً هل تنصيب الإمام الذي هو خليفة الله في الأرض من شأن الناس أنفسهم أم هو من شؤون توحيد الربوبية..؟؟
رضا .. الأحد، 11 شعبان المُعَظــَّـم، 1425هـ