من فلسفة الصوم في شهر رمضان
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة على محمد وآله الطاهرين
لم يشرع الله سبحانه وتعالى لخلقه عبادة قط إلا ويجد المتأمل في هذه العبادة أن لها فلسفة وغاية وحكمة من ورائها، ولم تشرع عبثاً وإنما لتحقق لهذا الإنسان مصالح في آخرته ودنياه، فجميع العبادات بلا استثناء تعطي ثمارها على الفرد والمجتمع في الدنيا والآخرة.
ومن هذه العبادات الهامة فريضة صيام شهر رمضان المبارك حيث يقول جل وعلا ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (183) سورة البقرة، ونريد في هذا المقام التوقف قليلاً لتسليط الضوء على هذه الشعيرة الإسلامية العظيمة والكبيرة لكي نصل إلى معرفة شيءٍ يسير من فلسفة الصوم وأهدافه وغاياته حسب عقولنا المحدودة التي لا يمكن أن تحيط علماً بأحكام الله وعللها.
التقوى أول غايات الصوم
لو تأملنا في الآية الكريمة التي ذكرناها في المقدمة لوجدنا أن الغاية السامية لفريضة الصيام هي التقوى وهي قول الله سبحانه وتعالى (لعلكم تتقون).
في الحقيقة إن الصوم هو محطة أساسية للتزود بالتقوى فإذا أراد أي شخص معرفة أنه صام صوماَ حقيقياً فلينظر إلى درجة التقوى عنده بعد الصوم فإن كانت عالية فسيعلم أنه صام الصيام المطلوب إلا فليعلم أنه امتنع عن الأكل والشرب في زمان ما فحسب.
عندما ننوي الصوم فإننا نعزم على ترك مجموعة من الأفعال من طلوع الفجر إلى الليل وذلك بشرط أن يكون الترك امتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى وتقرباً وطاعة له.
إن أي شخص منا يلتفت إلى هذا الشرط فإنه سيعلم ما المقصود بالتقوى، إن التقوى بمفهومها العام هي فعل وترك امتثالاً لأمر الله في جميع أحوال الإنسان.
إننا نلاحظ أن المفطرات عشرة أو أقل حسب اختلاف الفقهاء في ذلك بعضها حلال بالأصل كالأكل والشرب من المباحات ونتركه في نهار شهر رمضان وبعض آخر هو محرم بالأصل كالكذب على الله ورسوله ويبطل الصوم فعله في النهار، إن أي من هذه المفطرات العشرة يستطيع الإنسان فعلها دون أن يراه أحد لكن المؤمن يتركها بإرادته بقصد القربة.
إن المؤمن عندما يصوم شهر رمضان المبارك فإنه يشعر نفسه أن طاعة الله وامتثال أمره يلزم فيها الاستمرار لا أن تكون محدودة بزمان ما، فإن جزاء المطيع الجنة وجزاء العاصي النار فلو فرضنا أن شخصاً صام شهر رمضان بدقة متناهية وترك جميع المفطرات، حتى أنه لم يأكل أو يشرب نسياناً بنية التقرب إلى الله، ثم بعد انقضاء هذا الشهر الكريم انغمس في المعاصي والذنوب كترك الصلاة كما يفعل بعضهم أو قطيعة الرحم أو الغيبة أو شرب الخمر أو سماع الأغاني...إلخ، إن بعض الناس لا يكتفي في شهر رمضان بترك المفطرات بل إنه يتحول في الشهر إلى راهب من كثرة الطاعات لكن بمجرد انقضاء الشهر يعود إلى أحضان الرذيلة والفساد، هنا يتبين لنا حقيقة الصوم فإن الصوم عبارة عن وقفة مع النفس في زمن معين لتربيتها على التقوى لباقي أيام السنة إن شهر رمضان ورجب وشعبان في الحقيقة هي شهور التزود الروحي، نعم هناك أناس ينحون منحىً أسوء من أولئك فإنهم لا يتركون المعاصي في شهر رمضان فهم يتعاملون معه كغيره من شهور السنة بل أسوء من ذلك فمنهم تزداد المعاصي عندهم في هذا الشهر العظيم (المستجار بالله)! ولا شك أن السيئات فيه تضاعف كما الحسنات.
إذاً على المؤمنين جميعاً أن يتزودوا التقوى في هذا الشهر فيكون شهر رمضان بالنسبة لهم بمثابة محطة الوقود، لا أن يكون هذا الشهر مجرد شهر للجوع والعطش، بل علينا في كل لحظة من لحظاته أن نستثمرها لصالح دنيانا وآخرتنا حاضرنا ومستقبلنا حتى نكون ممن ينسلخ عنهم الشهر وقد انسلخت عنهم ذنوبهم.
صوم شهر رمضان والوحدة الإسلامية
لقد فرض الله الصيام على كل مسلم مستوف لشرائط التكليف العامة، لكننا نلاحظ أنه لم يترك للفرد اختيار شهر ما ويصومه وكفى، فلو صام أي كل شخص شهر باختياره فإنه سيستفيد من الصوم قطعاً في بعض غاياته كالشعور بالفقراء والمحتاجين وتلمس معاناتهم، لكن الله سبحانه وتعالى قد فرض على المسلمين صيام شهر رمضان المبارك جميعاً في وقت واحد عند رؤية هلاله حيث يقول سبحانه وتعالى ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (185) سورة البقرة
إن صيام الناس جميعاً في وقت واحد هو مظهر من مظاهر الوحدة الإسلامية التي روعيت في فرض هذه الشعيرة، ناهيك عن اختيار شهر رمضان دون غيره فلماذا لم يكن الواجب صيام شهر شوال مثلاً، بلى إن هذا الشهر قد تميز بميزة جعلته الشهر الذي يدعو الله فيه عباده لضيافته إنه كما ذكرت الآية الشريفة سالفة الذكر الشهر الذي أنزل فيه القرآن وما أدراك ما القرآن إنه كتاب الهداية إنه كلام الله الذي تفضل به على عباده بواسطة خير نبي ورسول بل أفضل الخلق محمد .
إنه شهر فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر فما أعظم الكرم والجود الإلهي حيث اختار ربنا تبارك اسمه لأداء فريضة الصوم شهر عظيم ألا وهو شهر رمضان فلننظر إلى مقطع من خطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما اقترب حلول هذا الشهر
عن أبي الحسن الرضا، عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليهم السلام قال: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطبنا ذات يوم فقال: أيها الناس انه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دعيتم فيه الى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب. (ص 225 مفاتيح الجنان)
إن من كرم الله سبحانه وتفضله على عباده أن جعل الصيام في هذا الشهر لهم جميعاً ليشملهم جميعاً برحمته وعطفه، وليصبح هذا الشهر مظهراً من مظاهر تماسك المسلمين ووحدتهم وقوتهم ومنعتهم.
فلو أن المسلمين استثمروا هذه الشعائر الربانية لتسنموا ذرى المجد ولتزعموا هذا العالم، لكن للأسف الشديد أعداء الإسلام ومن يتربصون به الدوائر يسعون سعياً حثيثاً لإفراغ هذه الشعائر الدينية من محتواها، وجعل الأمة الإسلامية تتمسك بالقشور.
علينا أن نستلهم الدروس العظيمة من شعائر الله سبحانه وتعالى ونستفيد منها في واقعنا وحياتنا الدنيا، كما أنها بلا شك نافعة إن شاء الله في الآخرة.
إن مناسبة الصيام تعد فرصة طيبة للم شمل الأمة وتوحيد الصف ضد أعداء الإسلام والمسلمين بل أعداء الإنسانية جمعاء، لأن من يحارب الإسلام فهو حقيقة يحارب القيم الإنسانية العليا لأن الإسلام هو دين الفطرة دين السلام.
الصوم يعلمنا العبودية المطلقة لله والدقة في العمل
إن من يتأمل في هذه الفريضة العظيمة يجد أنها تنمي في الإنسان الدقة في أداء العمل مما ينعكس بدوره على العبودية المطلقة لله، فنجد أن الصوم يبدأ بطلوع الفجر وينتهي بغروب الشمس (غياب الحمرة المشرقية)، ولكي يتأكد الصائم من ذلك يلزم عليه أن يمسك قبل الفجر بقليل وبعد الغروب بقليل ليتأكد من وقوع الصوم في هذا الوقت.
كذلك كما أن الأكل الذي يوصل الإنسان إلى الشبع مبطل للصوم فإن إدخال السواك الرطب إلى الفم وبلع هذه الرطوبة مبطل للصوم وإن كان ذلك لا يسمن ولا يغني من جوع.
إن الصوم كغيره من العبادات ينمي عند المؤمن الشعور بالعبودية المطلقة لله والتي مؤداها بأن تكون مطيعاً لربك طاعةً عمياء و إلا فإن الله لا حاجة له في صومك و جوعك وعطشك أصلاً فضلاً عن الالتزام بترك هذا الصغائر كما في الأمثلة السابقة.
كما أن ذلك يعلمنا أن نكون دقيقين في مواعيدنا والتزاماتنا تجاه أنفسنا والآخرين وفي أداء أعمالنا بشكل عام، لينظر العالم إلى عظمة الإسلام كيف يربي أتباعه على الفضائل ويخلق فيهم كل ما هو خير لهم في الدارين.
الجوع والعطش درس عظيم
إن المؤمن عندما يصوم ويشعر بالجوع والعطش الذي أصابه باختياره وبإرادته، تراه يجوع ويعطش وجميع أصناف الأطعمة والأشربة في متناول يده، لكن طاعة الله والتقرب إليه هما من منعه عن الأكل والشرب، إن هذا الشخص إن كان قد استفاد من هذا الجوع فإنه سينعكس في عدة جهات وهي:-
1- يتذكر جوع وعطش يوم القيام كما ذكر ذلك في خطبة نبينا الأعظم محمد (واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه)، فإن من يجد ألم الجوع والعطش هنا مع كونه محدوداً فإنه سيستعد ليوم القيامة الذي يطول سنيناً كثيرة لا نهاراً واحداً كما هو حال الصائم، والاستعداد لا يكون إلا بطاعة الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه وهذا يرجعنا إلى استفادة التقوى من الصوم.
2- يشعر الصائم بجوعه وعطشه بآلام الفقراء والمساكين والأيتام، فإن الإنسان إذا ذاق مرارة الجوع والعطش لفترة محدودة باختياره وتنتهي بالليل ثم ينصرف كثير منا إلى تخير فنون الأطعمة والأشربة، فإنه من اللازم عليه أن يشعر بمن ليس لجوعه مدة محدودة فقد يجوع ويعطش ليوم أو يومين، لذلك علينا أن نرحم الفقراء والمسكين في هذا الشهر وغيره من أيام السنة ونشعر بألم الجوع والعطش لديهم.
3- إن من يجوع ويعطش ويترك النعم باختياره فإنه تتولد لديه القدرة على الصبر ومواجهة المصائب عندما تحل لا سمح الله، فإن كل إنسان معرض لهذه المصائب كم يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ (155) سورة البقرة، فإن الإنسان لا يأمن المصائب ومنها الفقر كما يروى (اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم)
هذه بعض التأملات في هذه الفريضة العظيمة التي يتضح لنا منها بعض فلسفة الصوم لعلنا نستفيد من صيامنا في هذا الشهر الكريم، ولا نصبح لا سمح الله ممن حظهم منه الجوع والعطش، نسأل الله أن يبلغنا له ويرزقنا صيامه وقيامه.
اللهم اجعل صيامنا فيه صيام الصائمين وقيامنا قيام القائمين ونبهنا فيه عن نومة الغافلين وصلى الله على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين.
23 شهر شعبان المعظم 1425هـ