الزهراء .. خطوات ثابتة
ما أكثر الذين يحاولون الإمساك بالغيوم لكن خطاهم تتعثر فوق الأرض .. قد يدرك المرء أحياناً ماذا يريد .. لكنه لا يعرف طريق الوصول إليه .. وقد يتخبط بشكل عشوائي باحثاً عن ملامح لأفق غارب ضارباً بقدمه طرقاً مختلفة .
قلة من الناس يولدون وهم يدركون بأن لديهم رسالة معينة ومنهجية يتعين عليهم القيام بها فتكون خطواتهم فيها واضحة وغاياتهم متجلية أمامهم ببصيرة ثابتة .. هؤلاء عادة لا يكونون أشخاصاً عاديين يعيشون معنا ثم يرحلون عن أفقنا بلا أي أثر يتركوه أو ذكرى تخلدهم .. فهم غالباً ما يصطبغون بالعظمة يتراسل النور من وجودهم .. تضيء أرواحهم لنا وتتقد قلوبهم مشاعل لأهل الأرض كما تضيء النجوم في السماء ..
صفاتهم وسماتهم .. شرف النفس .. جرأة في الحق .. رباطة جأش وشجاعة لخوض معاركهم النبيلة .. ثم إيمان يتقدم خطاهم .. وعطاء وحب ورهافة حس يتشحون بها .
قضيتهم .. ليست غالباً قضية عادية أو مُهمشة .. فهي امتداد لقضية خالدة تضرب بجذورها نحو عقيدة سليمة ترتفع إلى أن تصل لراية حق تباركها السماء .
أعداءهم .. لكل حق كاره ولكل عدل مبغض .. لكن مصيرهم حتماً أن يتحولوا إلى تماثيل من طين رديء تزفرها الأيام بعيداً .. فإذا هي تتوارى عن الأنظار في ركن قصي لتفرز من سواد نفسها قيحاً وصديداً تمقته صفاء النفوس.
عمرهم قصيراً كان أو طويلاً .. فهو محسوب بعمر قضيتهم .. وغالباً لا يبقون طويلاً بعد أن يؤدوا رسالتهم المنوطة بهم .. لأنهم يرحلون تاركين خلفهم فراغاً كبيراً تعجز الأيام عن ملأه.
وحياتهم بطولها وعرضها .. هي صفحة مشرقة من صفحات التاريخ .. نلمس فيها ألوان من العظمة تحيطهم كهالة نور تؤطرهم بمعاني الجلال والحكمة المستمدة من تجارب أليمة مرت بها نفوسهم وتجاوبت معها بالصبر والصمود .
من بين هؤلاء سيدة نساء العالمين ، من يغُض لأجلها الطرف يوم الموقف احتراماً وإجلالا، هذه السيدة العظيمة التي عاشت حياة قصيرة ملأى بالإيمان ومشحونة بجرائر الأحزان خَطَتْ خطوات ثابتة عندما قررت أن تكون نجمة مشعة في السماء تضيء لأهل الأرض .. إنها فاطمة .. ومن هي فاطمة ؟
قال عنها المصطفى : "فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها " .. فاطمة التي اكتسحت قضيتها مجالاً أبعد من حدود بيتها فراحت تحمل قضية ضخمة وخطيرة تشكل في جوهرها امتداداً للجهاد الذي بدأه أباها محمد لتعلن احتجاجها أمام الملأ .. وأثبتت بذلك للتاريخ كله أن الخلافة التي قامت أولى خطواتها بالاعتداء على أملاك الرسول وأهل بيته لا تعتبر امتداداً له بقدر ما تكون تطاولاً عليه وعلى الإسلام برمته . وقد تمكنت من بيان الحق لمن أراد أن يسأل التاريخ : كيف توفيت الزهراء عليها السلام ؟.. ورغم ما كلفها الأمر من ظلم وقع عليها أدى إلى كسر ضلعها وإسقاط جنينها ثم استشهادها أخيراً وإعفاء أثر قبرها ، فقد صبرت لإدراكها بأنها عنصر فعّال من عناصر مهمة تُكمل رسالة محمد.
وإذاً .. فالزهراء ليست مجرد امرأة عاشت قليلاً ثم انطفأت في ريعان الشباب ونضارة الصبا.. ولا مجرد امرأة كانت تزج بنفسها في أمور السياسة تنافس الرجال وتختلق الفتن .. فهي بضعة النبي وبهجة قلبه ونور عينيه إنها أم أبيها .. سيدة نساء العالمين .. هي فاطمة التي مزقت الأعذار الواهية وأسقطت الأقنعة الغاصبة .. فاطمة التي فضحت حزب السقيفة بكل جرأة وصراحة وأظهرت انحرافهم عن دين محمد وأدانتهم على مشهد و ملأ .. ثم راحت تتخذ من فدك إدانة أكبر على زيف ما يدعون وبطلان ما يبتغون .
لم تكن الزهراء واهية في حُجتها .. ولم تكن لتزج بنفسها في مهالك تُجرعها مرارة وغصة .. وإنما كانت تدافع عن قضية رسالية عميقة بصوت جاهر بالحق ورثته عن أبيها محمد .
وبقيت "فدك" .. حقها المغصوب شاهداً على قضيتها كما ضل قبرها المخفي عن الأنظار يصرخ في بطون التاريخ ويناشد الأجيال باستفهامات عِدة .. يسأل أمة محمد : أين قبر ابنته وبضعته وحبيبته فاطمة ؟ .. ولِمَ أصرت على إخفائه ؟ ، في حين لا زالت أحاديث النبي تُقرأ لتُؤكد حبه لها و وصايته لأمته بها من بعده ! : " إن فاطمة شعرة مني ، فمن آذى شعرة مني فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله لعنه الله ملأ السماوات والأرض " ،.. كما لا زال القرآن يتلو اللعن على الذين يؤذون أهل بيته : ﴿إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً﴾.
و حين وقفت الزهراء تلقي خطبتها في مسجد الرسول لتعبر عن معارضتها لنظام الحكم الجائر بحزن دفين وبصوت مضمخ بالألم واللوعة لفراق أبيها.. فقد وقفت بكل شجاعة تطالب بحقها المغتصب في "فدك" التي تحولت فيما بعد رمزاً لقضية أكبر، فلم يكن الأمر مجرد استرجاع لحق مغتصب .. رغم أنه من الطبيعي أن يطالب كل إنسان بحقه بالطرق المشروعة .. وقد وجدت في فدك مجالاً للتعبير عن معارضتها وطريقاً لتعرية منهج خاطئ يُنذر الأمة من مستقبل خطير يهددها .
كما كانت "فدك" مجالاً مفتوحاً للمطالبة بحق زوجها الإمام علي الذي عتم عليه إعلام السقيفة الجائر فأقصاه عن حقه المشروع في الخلافة.. وصار "لفدك" تلك الأرض الزراعية المحددة بحدود جغرافية عنوان واسع يشملها ويؤطر الكثير من معاني الخلافة والإسلام والحق المغتصب حولها وهي التي أعطت فيما بعد سبباً لشهادة الزهراء عليها السلام .
لم تسترد الزهراء إرثها في "فدك" بل راحت ضحية المطالبة بها .. وربما قد تكون خسرتها لكنها قطعاً لم تساوي في نظرها شيئاً يذكر غير أنها مستمسك ودليل تواجه به خصومها .. نعم خسرت الزهراء فدكاً لكنها مقابل خسارتها لها كسبت قضية حاولت السقيفة إخفاء معالمها بإطلاق دعاوي ومبررات واهية أقرب ما يمكننا وصفها بأنها تهريج وعبث أحمق ! .
وهكذا سجل التاريخ خطوات ثابتة لشخصية رهيفة الحس عفيفة النفس عقيلة الرسالة عميقة الإيمان صيغة من نور الرحمن . لم تنتهي قضية الزهراء ولم تندثر رغم تجاهل التاريخ لها بل بقيت تطرح تساؤلات حائرة تدعو للبحث عن إجابة واضحة بين الصفحات .. ولم تندثر فاطمة خلف صفحات قديمة لتاريخ مليء بالأكاذيب والتناقضات والمزاعم المختلفة .. فقد قامت باسم الزهراء حكومات عديدة كدولة الأدارسة في المغرب والفاطميين في مصر والطباطبائيين في العراق والشرفاء في الحجاز والصفويين في إيران وغيرها من الحكومات الفاطمية العلوية التي شهد التاريخ أمجاداً لها حين قامت باسم نهضتها المباركة.
لقد تركت فاطمة الدنيا وزخارفها وأعرضت عن مغريات الحياة هازئة بمن يتكالبون عليها .. وما كانت نهضتها ومطالبتها بحقوقها إلا لإعلان ثورة الحق التي كانت رسالة لها .. فخطابها لم يكن موجهاً لفئة صغيرة متكالبة على أمر الخلافة التي لم تكن من حقها، وإنما كان إنذاراً موجهاً للعالم كله .. فلم تكن الزهراء تنشد حدوداً جغرافية لقرية في الحجاز هي إرثاُ لها من أبيها وإنما كانت تطالب بأبعد من التراب .. كانت تطالب بخلافة محمد .. وكانت تُدرك بأن حدود فدك ستمحى لكن أثار قضية فدك لن تمحى لأنها ارتبطت بخطى مشتها فاطمة التي اتسمت بثبات شخصيتها والتي تتضح لنا ظلالها جلية كلما تمايلت سحب الظلم .
الخميس 2/5/1426هـ