الحوار الطائفي:حوار علم أم مساءلة ادانة؟
منيت ساحات الانترنت بالمد الطائفي ، من خلال المشاجرات العقيمة والمباهتات الطائفية التي تحتضنها وترعاها مجموعة من دوائر شبكة الانترنت . وهذه المجاذبات الحادة ليست طارئة ولا مرضا عارضا عابرا ، ولكنها تتوكأ على رصيد تاريخي طويل من الخصومات والمصادمات ، وعلىالتركة الثقافية القاتمة التي تمثلت في قلب حقائق المذهب الآخر واختلاق النسب والآراء وما يجري مجرى ذلك من مفردات الزور والبهتان وغياب الأمانة العلمية ، واذا كانت العرب تقول : " من شابه أباه ما ظلم " فلا غرو ولا عجب أن ينسل ذلك السياق التاريخي الطائفي هذه الحوارات البعيدة كل البعد عن جانب الصدق في طلب الحقيقة وأمانة النقل ، فانها ـ والكلام مازال عن هذه الحوارات ـ يسهل لكل من طالعها ـ ولو من نافذة عابرة ـ أنها لا تجري وراء "الحقيقة العلمية" والبحث المنصف ، ولكنها تلهث خلف " الادانة " ، وتحاول تسقط كبوات الخصم وعثراته . لقد أسست هذه المواقع الطائفية مناخا عدائيا لا يبصر من صورة الآخر الا المواضع الداكنة والمظلمة ، على نحو قول الشاعر :
وعين الرضا عن كل عيـب كليلـة ولكن عين السخط تبدي المساويا
والأدهى والأنكى من الذنب المعاذير التي يعتذر بها ، فليست هذه الممارسات الطائفية السبعية في مقياس صاحبها الا دفاعا عن الحق وغيرة عليه وخدمة للمبدأ المقدس وذيادة عنه .. ولكنني أتساءل : ألا يمكن عرض الحقيقة من دون ضجيج ؟ ألا يمكن تحديد نقاط الضعف عند الآخر المختلف بلغة هادئة أليفة ؟ ألا يمكن قراءة الفكرالذي نختلف معه ابتداءا من أسسه وسياقاته وانتهاءا بثماره الفكرية ؟
ان قراءة فكر ما قراءة تأسيسية ، أي قراءة تبدأ من الأساس ، تتيح للباحث أن يفهم التصميم الفكري الذي بين يديه بدقة ، ويخلّص الباحث من حالة التشنج التي يمنى بها البعض عند الوصول الى نتائج فكرية لم يألفها ، لأن الوقوف على فكر ما في المراحل التي اختمر فيها والروافد الفكرية التي أنتجته و منحته صبغته الخاصة ، أقول ان كل ذلك يتيح للباحث تهيئة نفسية لتفهم ذلك الفكر ووعايته بطريقة صحيحة ،بغض النطر عن تبنيه لذلك الفكر في مرحلة لاحقة وعدم تبنيه ، أما القفز بطريقة بهلوانية على كل المعطيات النظرية والحقائق الفكرية والتأسيسية لفكر ما أو مذهب اعتقادي ما ، فانه مدعاة للتنفير والتشويه ، وهو الى ذلك خارج عن الطريقة المنصفة للتعامل مع من نختلف معه . لقد قام الشهيد الصدر ( رحمه الله ) ـ على سبيل المثال ـ في سفره القيم " فلسفتنا " بدراسة التيار الماركسي مبتدءا من أبجديات الماركسية ، منتهيا بالبناءات العلوية لها ، وبذلك أتاح للقارئ الحصيف أن يبصر الماركسية كما هي من دون اضافات ولا تشويهات ، كما أعطى الفرصة لمتابع الكتاب أن يقيم الماركسية تقييما نهائيا ، وأن يطلق القارئ فتواه النهائية فيها ، من دون أن يقوم المؤلف بسلب الفرصة من القارئ في أن يفهم الماركسية فهما حقيقيا ، ولا أن يدخل القارئ الى مرحلة ما يسمى " غسيل الدماغ " ، ولا أن يحرّضه على الماركسية بطريقة تعبوية.
لقد كان السيد الشهيد (رحمه الله) في كتاب فلسفتنا " علميا " الى ابعد الحدود ، ولم يكن له حضور في الكتاب الا بمقدار ما يسفر عن قواعد العلم والمعرفة ويفصح عن نتائجها ، فالمتابع للكتاب يلمس هذه الحقيقة ناصعة الوجه واللسان ، ويشهد المؤلف وهو يستدرج القارئ في خطوات البحث العلمي وئيدا وئيدا ، وشيئا فشيئا الى أن تتمثل له الحقيقة بيضاء نقية . اننا ندعو من يهرج في المنتديات على هذه الطائفة أو تلك أن يقرأ على سبيل المثال كتاب " فلسفتنا "ـ ان أمكن ـ ليتعرف الى الطريقة المثلى للتعامل مع الخصوم ، وليعلم الى أي مدى شطّ به الهياج الطائفي عن مقاييس الاتزان العلمي ، وعن لغة الانصاف .