الحوار الناجح
يكتسب الحوار أهمية قصوى في اكتشاف الحقائق أو التقريب بين المختلفين ، فهو يقابل الصراع و النزاع عند الاختلاف .
يقول سماحة العلامة الشيخ حسن الصفار :
العزوف عن الانفتاح على الآخر ، و غياب الحوار بين القوى و الأطراف المختلفة في مجتمعاتنا يعتبر مكمناً أساساً من مكامن الداء في هذه المجتمعات، و مظهراً صارخاً من مظاهر التخلف.
مع امتلاكنا لهذا الأداة الفعالة لإدارة خلافنا، أو تطوير عملنا إلا أننا كثيراً ما نخسر الفوائد، ونحول هذه الأداة إلى معول هدم لما نملك من مشتركات !!
ذلك لأننا لم نستثمر هذه الجوهرة بالشكل المطلوب .
تعريفات
لا نريد أن نرجع بالمفردات التالية إلى أصولها اللغوية، و إطلاقاتها المتفقة أو المتباينة حسب مقام حدوثها، بل نكتفي بمختصر سهل لا نشق به على القارئ .
المناظرة : حوار بين جهتين تحاول كل جهة التغلب على الجهة الأخرى وإبطال حججها، ومن ثم إثبات الحق لصالحها .
الجدال : حوار مع انفعال ظاهر .
وكثيراً ما تستعمل كلمة ( الجدال ) في الحوار الذي لا ينتهي بنتيجة.
الحوار : مناقشة بين شخصين أو أكثر بهدف الوصول إلى الصواب، أو التعرف على وجهة نظر الطرف المحاور و منطلقاته الفكرية ، مع التسالم على حق كل طرف في تبني ما يراه حقاً .
في المحطات التالية نسلط الضوء على بعض ما يمكن أن يساهم في إنجاح الحوار، وبعض ما يؤدي إلى فشله.
( 1 ) عاملان رئيسان
تلعب المنطلقات والأهداف التي نحملها أثناء الحوار دوراً كبيراً في نجاح أو فشل ما نقوم به من عملية حوارية
لماذا أجلس إلى مائدة الحوار ؟
هل جئت منتقماً ؟!
أم جئت لأظهر إمكانياتي في معرفة المصطلحات الثقيلة الوزن ؟!
أم جئت لأفهم مبررات الطرف الآخر، و أسباب ما سلكه من أسلوب و اتخذه من موقف ؟
وضوح الرؤية ، وخلو النفس من نوازع الأنا عاملان رئيسان لإنجاح أي حوار .
هل ستستفزني هفوة محاوري فتجرني لمحاولة النيل من شخصيته و إسقاطه ؟!
على المرء أن يراقب نفسه من عل، كي يكبح جماحها عند محاولة حرف الحوار عن أهدافه إلى نوازع النفس
يحاول شخصان إيجاد حل لمشكلة مشتركة بينهما فينـتهيان إلى صناعة ثلاث مشاكل جديدة!!
غياب الرؤية ، أو الحضور المكثف لنوازع النفس الصغيرة يفقد الحوار ديناميكيته الموصلة للأهداف المحددة .
مما سبق نخرج بالقاعدة الذهبية التالية :
وجود هدف نبيل + وضوح هذا الهدف + مراقبة النوازع النفسية و السيطرة عليها = حوار ناجح جميل .
( 2 ) أي الألوان ؟
الجدال .. المناظرة .. الحوار .. ألوان شتى من الحديث بين شخصين أو أكثر .
كثيراً ما تغيب عن المتحاورين طبيعة الحديث الذي يديرونه !
يظن الكثير من الناس أن أي نقاش أو حوار يشتركون فيه هو بمثابة حرب لابد من الانتصار فيها !!
ليس كل اختلاف في الرأي يجب أن يؤدي إلى مناظرة أو جدال .
و إليك بعض الأمثلة : شخصان يخططان لرحلة .. معلمون يناقشون فقرات الحفل الختامي لمدرستهم .. شباب يستعدون لإقامة احتفال .
يفترض أن تكون مثل هذه الحوارات محفوفة بالطرفة و النكتة ، لا أن تنتهي بإلغاء الفكرة من أساسها ، بسبب أسلوب النقاش الذي تحول من تفكير بصوت مسموع إلى جدال بين قامع و مقموع !! .
( 3 ) أصحاب بضاعة
يسعى التجار لإظهار بضائعهم بالشكل الجميل، ويحاولون إقناع الزبائن بالعبارات الراقية .
نحن ـ حين نتحاور ـ كتجار يعرض كل منا بضاعته ، و لا يفرض على الطرف الآخر شراءها ،
بل يقبل منه الرفض حتى يكسبه في المرات القادمة .
هل يجبرك التاجر على شراء بضاعته ؟!
إنه لو حاول ذلك ستضع متجره ضمن ( قائمة المقاطعة ) لديك !!
في حواراتنا نلحظ الإلحاح والتكرار لعرض البراهين والحجج وكأن صاحبها يقول :
لابد لك من قبول رأيي .
من المفترض أن ينتهي الحوار بعد أن يدلي كل متحاور برأيه ، إلا أن يأتي أحدهم بدليل جديد ،أما الإلحاح والتكرار فهو مضيعة للوقت ، رافع لمستوى التشنج والانفعال .
( ومن يسعى لنشر فكرته في أوساط الآخرين، ويهمه استجابتهم لدعوته، عليه أن يبحث عن منافذ التأثير على نفوسهم، وطرق الوصول إلى عقولهم، ليضمن اقتناعهم وقبولهم بفكرته ودعوته)
( 4 ) الحب مفتاح كل خير
حب الطرف الآخر، أو حب إيصاله إلى الخير كثيراً ما أضاء الطريق عند اشتداد أوار الخلاف .
الحوارات التي أجراها الأنبياء والأئمة مع من عاصروهم، يقودها من الطرف الأول عامل الحب، ولذلك كان الاطمئنان والسكينة تظلل صاحب الحب .
وكذا هي سيرة العلماء الصالحين ، وممن يضرب به المثل في هذا المجال الإمام السيد محمد الشيرازي ـ رحمه الله ـ فقد اهتدى على يديه العشرات ممن حاورهم بالحب .
هذا المقصر في عمله ـ في أي مجال من المجالات ـ عندما تناقشه في تقصيره، أنت تسعى لرفع مستوى أدائه ، هل يعجبك أن يتحول سلوكه من حالة العفوية والسهو إلى حالة الإصرار و العمد ؟!
أحياناً نحن نساهم في ذلك دون أن نشعر !!
( 5 ) الحوار مع الاختلاف
ليس بالضرورة أن يؤدي الحوار لإنهاء الاختلاف، لكنه إذا أُدير بشكل جيد سيؤدي إلى إنهاء الخلاف..
فلا يجب أن نصل إلى رأي موحد في كل مسائل الاختلاف، بل علينا السعي لإيجاد صغية تفاهم نتعايش ضمن إطارها عند وجود الخلاف.
( 6 ) المشتركات أولاً
يؤسس القرآن الكريم قاعدة الانطلاق في الحوار من خلال البدء بالمشتركات ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ (آل عمران:64) من خلال البدء بالمشتركات و الأمور المتفق عليها تتهيأ الأرضية النفسية لقبول الطرف الآخر ، وعند الوصول إلى الأمور المختلف فيها ستكون المشتركات الأولى مخففاً لاحتمال التباعد أو التنافر .
( 7 ) لغة الحوار
قد يكون الاختلاف بين المتحاورين كبيراً جداً ، لكن لغة الحوار و عبارات الثناء المتبادلة قبل طرح أي رأي تجعل الأجواء مهيأة لتفهم وجهة نظر الطرف الآخر .
كما ينبغي أن لا تظهر عبارات الادعاء بامتلاك الحق أو احتكاره أو محاكمة آراء الآخر باعتبارها الباطل .
وقد كان توجيه القرآن الكريم في هذا الجانب مثيراً للدهشة ﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ (سـبأ:24) فرغم وجود أعلى درجات اليقين بامتلاك الحق المطلق إلا أن الله سبحانه يطلب من نبيه مخاطبة المشركين بخطاب يجعلهم معه في مستوى واحد من حيث الانتساب إلى الهدى والضلال !!
و من أرقى الحوارات و أجملها روعة ما جرى بين العلامة السيد عبدالحسين شرف الدين و العلامة الشيخ سليم البشري ..
لغة جميلة .. احترام منقطع النظير .. عبارات ملؤها الحب و الصفاء بحق يمكن أن نعتبر ( المراجعات ) مدرسة أخلاقية سامية في فن الحوار .
( 8 ) المستمع الجيد متحدث جيد
كثيراً ما يضحك المرء وهو يرقب حوارات تجري أمامه المتحاوران متفقان في الرأي ، لكن كل واحد منهما ينتظر لمحة بصر ليختطف زمام الحديث ويدلي برأيه دون أن يسمع الطرف الآخر . وهو ما يسمى بـ( حوار الطرشان ) لو استفاد الإنسان من طبيعة خلقته بأذنين ولسان واحد لأمكنه الوصول لحكمة الإصغاء .
( 9 ) تحرير محل الخلاف
من العجيب حقاً أن يكون الحوار مكتوباً ـ كما هو في المنتديات ـ ويتيه المتحاورون في مجاهل شتى ، كل يتحدث عما يروق له !!
قبل البدء في النقاش لابد من حصر نقطة الخلاف التي سيدور حولها الحوار .
على سبيل المثال نقول : هل حديثنا حول جدوى الحوار الوطني ، أم حول الأسلوب الأمثل للمطالبة بالحقوق ؟
أحياناً يكون كل طرف متحمس لأمر ما يشغل تفكيره فيندفع للدفاع عن فكرته دون التركيز على موضوع النقاش الذي كانت البداية حوله .
( 10 ) المواقف المسبقة
أحد أهم عوامل فشل الحوار الموقف المسبق من الشخص المحاور أو الجهة التي ينتمي إليها ، إننا كثيراً ما نصم آذاننا عن سماع أية فكرة صادرة من فلان دون أن نتأمل فيها ، مع أننا نكرر كل يوم : خذ الحكمة ولو من أفواه المجانين.
لو حاورك شخص و استشهد أثناء حواره بقول لأحد علماء الخوارج، ربما تبرز حالة النفور من هذا الشخص فترفض الرأي برمته، و قد يكون الاستشهاد بقوله في صالح رأيك .
( 11 ) . بين مناقشة الفكرة ومحاكمة صاحبها
من المواقف المسبقة يتحول البعض من مناقشة الفكرة وتحليلها إلى محاكمة الأشخاص !
( إنك دائما ما تطرح مثل هذه الأفكار ... أنت كذا وكذا .. أسلوبك معروف !!! )
بدل أن أناقش فكرته و أبين وجهة نظري فيها، أتحول إلى ذات الشخص فأخرج بالحوار عن أهدافه المرسومة .
( 12 ) الانتصار للمجتمع
من يكون المجتمع حاضر أمام ناظريه له محل في قلبه و مشاعره، تختلف الموازين لديه عمن لا يرى إلا نفسه.
الأول يقدر الظروف ويختار الوقت المناسب ، وربما ينهي الحوار مراعاة لمصلحة اجتماعية متنازلاً عن دوره في إثبات حجته.
الثاني لا يهمه إن كان موضوعه أو توقيته سيحدث خلافاً عائلياً أو شرخاً اجتماعياً !!
( 13 ) بين الذوق الخاص والرأي العلمي
الأمر الذي نتحاور حوله هل هو خاضع للأذواق المختلفة من شخص لآخر ؟
أم خاضع للرأي العلمي الذي يثبت بالدليل؟!
أمر في غاية الأهمية يجب أن نتنبه له ، فكثيراً ما يشتبه الأمر علينا ونحن في خضم النقاش .
هناك أمور خاضعة للذوق ولا يجب ـ بل لا يمكن ـ فيها الاتفاق ، وكما يقال ( لولا الأذواق لبارت الأسواق )
اللون الأبيض للصالة أجمل أم اللون الأصفر الفاتح ؟ ليس هناك مقياس محدد للجمال ، فلا يمكن لأحد أن يدعي أن هذا اللون هو الأجمل وعلى الجميع اتباعه !!
( 14 ) بين التقدير و الميزان
إذا كان الاختلاف حول طول أو وزن أو ما أشبه فلا داعي لإضاعة الوقت أو التشنج .
الخلاف محسوم بالرجوع إلى وحدة القياس المتفق عليها .
أحيانا يدور الجدال حول طول هذا الباب أو تلك النافذة وكل يقدر بقدر، و لو رجع المتحاورون إلى وحدة القياس المتفق عليها لاختصرت عليهم الجهد والزمن .