العراق الجديد وضرورة الإحاطة بحقائق الديمقراطية
العراق بلد جديد على كل شيء, جديد على الحرية, جديد على تنفس الصعداء, وجديد على تقرير مصيره وإداره اموره بنفسه, وجديد على الحياة, وجديد على كل شيء لأنه خرج من انقاض سجن تاريخي رهيب اسمه النظام القومي العربي الطائفي, وبالتالي فهو جديد على كل المصطلحات التي يقرأها في الصحف ويسمعها على الأجهزة المرئية.
ومن تلك المصطلحات مصطلح الديمقراطية, حتى صرنا نسمع التيارات السياسية وغير السياسية, الدينية وغير الدينية, الإسلامية وغير الإسلامية, وكل شرائح المجتمع على اختلاف مشاربهم وتنوع ثقافاتهم وتباين مبادئهم, ينادون بالديمقراطية ويطالبون بها.
الأمر الذي يوجب على الباحث الوقوف عند هذه الموجةكثيرا وإطلاع أبناء الشعب على جذور مصطلح الديمقراطية ومنشأه واصوله والمراد منهو كي لا يمارسون الديكتاوتورية تحت لباس الديمقراطية, ولكي يضعوا المصطلح موضعه الذي اقامه من أجله مؤسسوه.
الحقيقة أن الديمقراطية ليست نظام للحياة كما يعتقدها البعض, إذ لم تكن نظاما تنتظم به مفردات الحياة بعضها بالبعض الآخر تنظيما طبيعيا يخلق وضعا تكامليا في الحياة دونما أي نقص أو خلل أو زلل.
لإن الديمقراطية ليست نظام فكري ولا عقائدي ولا اقتصادي ولا نفسي ولا اجتماعي بالمعنى الذي تنظم إجتماع الإنسان وفق منطلقات شيء اسمه علم الديمقراطية أو الفكر الديمقراطي أوعلم النفس الديمقراطي أو علم الإجتماع الديمقراطي أو ماشابه من مفردات الحياة التي يجب أن تنتظم بالديمقراطية إذا ما قلنا أن الديمقراطية نظام حياة.
ذلك أن أساس الديمقراطية يدور حول اعتماد رأي الناس في اتخاذ قراراتهم بأنفسهم في الحكم, وينسحب هذا المبدأ في اعتماده حتى في المؤسسات الإجتماعية فضلا عن السياسية, الأمر الذي يتطلب منهم التشاور والتحاور مع الجميع وتساوي افراد المجتمع في هذا المبدأ.
وبالتالي فلم يكن في الديمقراطية نظام لمنهج فكري تعتمده في تربية فكر الإنسان وثقافة المجتمع, ولم يكن فيها نظام يطرح للناس عقيدة أو يؤصل في المجتمع اعتقادا, كما ليس فيها من نظام يلتزم تربية الوضع النفسي للإنسان, وتوجيه الوضع الإجتماعي للناس, أو تنظيم علاقة الإنسان بالمجتمع سواء كان ذلك في اطار الدولة أو خارجها. فهي بذلك لم تكن نظاما شاملا للحياة بمجملها.
كما أن العراق جديد على الدستور وصياغته والآراء التي تتجاذب العراقيين حول ماهية الدستور, وماذا يعني رسمية كون الإسلام دينا للدولة وما هي حدود التشريع الإسلامي في الدستور, والتخوف الذي يبديه البعض من الاقليات الدينية أو القومية حول الإسلام والدستور والديمقراطية حدودها, وغيرها من المباحث التي رأيت ضرورة تسليط الضوء عليها لغرض الوصول إلى حقيقة ما ينبغي فهمه ومعرفته على طريق بناء العراق الجديد بناءا حضاريا انسانيا يغسل عنه ادران التعصب القومي والطائفي والاقليمي ومخلفات الاستبداد وثقافة الإقصاء والحذف والهيمنة, ومنطلقات الفرض والاكراه والعنف, ومن تلك المباحث هي:
- المبحث الأول: حول مفهوم الديمقراطية
- المبحث الثاني: بين الشورى والديمقراطية
- المبحث الثالث: حول معنى رسمية دين الاسلام
- المبحث الرابع: حول الاستفادة من دساتير العالم
- المبحث السادس: حول الاقليات القومية
- المبحث الخامس: حول الاقليات الدينية
- المبحث السابع: العراق الجديد واستيعاب ثقافة البناء
المبحث الأول: حول مفهوم الديمقراطية
ولمعرفة ما إذا كانت الديمقراطية نظاما للحياة أم لا, كان لابد لنا من بيان مفردات البحث وتسليط الضوء على كلمة النظام, والحياة, والديمقراطية.
أولا: تعريف النظام
إن تعريف النظام في لغة القرآن التي نتحدث بها ونتخاطب جميعا على أساسها, هو عبارة عن الرابط أو السلك الذي تجتمع به الأمور على نسق واحد, مرتّب ترتيبا طبيعيا لا شذوذ به, وبالشكل الذي لا ينتابه عيب, ولا يشوبه نقص أو ريب, مما يؤدي بالمجموعة التي تنتظم به إلى أسمى غايات الكمال, واكمل ترتيب للأمور, واتم تنسيق للمفرادت التي يراد لها الانتظام على أساسه, بما يجعل من تلك الاجزاء متجانسة مترابطة بعضها بالبعض الآخر ترابطا مستقيما لا عوج فيه.
ولبيان مفهوم النظام لابد أن نأتي ببعض معاني تلك الكلمة في قواميس اللغة العربية, ومنها قول الخليل بن احمد الفراهيدي عن كلمة النظام:
يقول (نَظْمُكَ خرزا بعضه إلى بعض في نظام واحد، وهو"يستعمل" في كل شيء حتى قيل: ليس لأمره نظام، أي لا تستقيم طريقته.
والنظام: كل خيط ينظم به لؤلؤ أوغيره فهو نظام، والجميع نظم.
والانتظام: الاتساق ...والنظام: العقد من الجوهر والخرز ونحوهما، وسِلْكُهُ خَيْطُهُ.
والنظام: الهدي والسيرة.
وليس لأمرهم نظام، أي ليس له هدي, ولا متعلق يتعلق به ) [1]
وقال ابن منظور في لسان العرب :
(النَّظْمُ: التأْليفُ...ونظَمْتُ اللؤْلؤَ أي جمعته في السِّلْك.. وكلُّ شيء قَرَنْتَه بآخر أوضَمَمْتَ بعضَه إلى بعض، فقد نَظَمَتْه.
والنِّظامُ: ما نَظَمْتَ فيه الشيء من خيط وغيره، وكلُّ شعبةٍ منه وأَصْلٍ نِظامٌ.
ونِظامُ كل أَمر: مِلاكُه.
وليس لأَمرهم نِظامٌ أي ليس له هَدْيٌ ولا مُتَعَلَّق ولا استقامة.
وتَناظَمتِ الصُّخورُ: تلاصَقَت. ) [2]
وعليه فالنظام كلمة تدل على الاتساق والاتفاق, والجمع بشكل متلاصق, والتراصف بهيئة متجانسة, والاجتماع على الاستقامة بتركيب يشد بعضه بعضا, فتترابط الاجزاء ترابطا على هدي وعن معرفة وسلامة في اتصال السابق بالاحق, وتأدية الغرض الكامل التام بالمجمل.
وبعد اتضاح معنى النظام لابد من الوقوف على معنى الحياة.
ثانيا: تعريف الحياة
الحياة على قول أئمة اللغة العربية تعني: (نقيض الموت.. وأَرضٌ حَيَّة "تعني" مُخْصِبة, كما قالوا في الجَدْبِ ميّتة.
و" قولنا" أَحْيَيْنا الأَرضَ" يعني" وجدناها حيَّة النباتِ غَضَّة.
وأحْيا القومُ أَي صاروا في الحَيا، وهو الخِصْب.
وفي الحديث: من أَحْيا مَواتاً فَهوأَحقُّ به؛ المَوَات: الأَرض التي لم يَجْرِ عليها مِلْكُ أَحد، وإحْياؤُها: مباشَرَتها بتأْثير شيء فيها من إحاطة أَوزرع أَوعمارة) [3] .
وعلى هذا فإن الحياة كلمة تحمل معاني نقيض الموت, وهي الحركة والفاعلية والنشاط البنّاء, كما تحمل معاني الخصب والنماء, ومعاني النظارة والعمارة والعطاء.
وعليه فإن أي مشروع سياسيا كان أو اجتماعيا يقوم على أساس الدماء والابادة والتدمير, وأسلحة الدمار الشامل, وإفساد استقرار الإنسان والمجتمع, واهلاك الحرث والنسل, وخراب العمارة, وقتل النضارة, وتمزيق المجتمع على الاسس القومية والطائفية واللإنسانية, فتقتل نضارة التماسك الإجتماعي, وتفسد نضارة الخصب في الإستقرار النفسي, وتلوث حلاوة الوضع السياسي, وتسلب طراوة الوضع إلاقتصادي, وتخرب عمارة الحياة, وتربك سلامة التراصف الطبيعي لبناء مفردات الحياة القائمة على الاسس الفطرية الطبيعية التي جُبل عليها الإنسان والكون. إن هكذا مشروع لن يمكن وصفه بالحياة, ولا يمكن أن يقال له مشروعا حيويا وان اتسم بسمات المدنية وتمتع بالتقنية, أو تبجح بالدين وتشدق بالقومية أو غيرها.
ثالثا: تعريف الديمقراطية
الديمقراطية(Democracy) هي طريقة اجتماع الناس على رأي في الحكم أو في إدارة مؤسسة اجتماعية أو غيرها بالشكل الذي يحترم رأي الجميع وبشكل متساوٍ, ولا يفرق بين شرائح المجتمع في التعبير عن الرأي في تقرير المصير في أية قضية سياسية كانت أو اجتماعية.
يقول الدكتور جورج سورينسون (Georg Sorensen) أستاذ السياسة الدولية والإقتصاد في جامعة آرهوس(Aarhus University Of ) في الدانمارك عن اصل تعريف الديمقراطية:
أنها: كلمة يونانية تتألف من كلمتين الأولى (demos) وتعني الشعب, والثانية (kratos) وتعني حكم [4] . وعليه فتكون كلمة الديمقراطية قد أريد بها (حكم الشعب) .
ويرى مفكروا الغرب ومثقفوه أن لا وجود لمفكرٍ مُعَيّنٍ أو مؤلِّفٍ مُتميَِّزٍ, ولا لكتاب مُخَصََّصٍ يكون مرجعاً محدداً يُرجع إليه في تفسير الديمقراطية.
يقول البروفسور جيوفاني سارتوري البرت سكويزر (GIOVANNI SARTORI Albert Schweitzer) استاذ في العلوم الإنسانية في جامعة كولومبيا(Columbia University) انه:
(لا يوجد مؤلف رئيس ووحيد كبير ترجع اليه الديمقراطية .
إن نظرية الديمقراطية تتضمّن، بالأحرى، إتجاها عاما هو الحديث في طريقة التفكير الذي يذهب دائما بالعودة إلى أفلاطون وأرسطو.
ورغم ذلك فإن مثل هذا الإتجاه العام قد زوّد الديمقراطية بهوية أساسية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.
ان الأمنيات في هذا الاتجاه كانت "تعني ان هذا القبول في الديمقراطية كنموذج أعلى للتشكل أو التنظيم الإجتماعي يدل على انه إشارة على إلاتفاق الأساسي في الأهداف النهائية للمؤسسات الإجتماعية والسياسية الحديثة.) [5]
إذن فالديمقراطية عبارة عن نظام لإستخلاص الرأي الاصلح للجميع من خلال الأخذ بالرأي الجمعي.
هذا من حيث رأي المفكرين السياسيين في مفهوم ومنشأ كلمة الديمقراطية, أما قواميس اللغة الانكليزية فلا تُخرج الديمقراطية عن حدود معنى المشاركة والمساواة في الحكم واتخاذ القرارات السياسية, كما يمكن استعمالها للتعبير عن أسلوب اتخاذ القرارات بصورة جماعية ومن خلال التشاور في الوصول إلى المطلوب, ولبيان مفهوم الديمقراطية في اللغة الانكليزية رأيت أن أتي ببعض المفاهيم عن الديمقراطية, والنظام الديمقراطي, والاسلوب الديمقراطي, والأمة الديمقراطية من معاجم لغة الانكليز, مما يجعل الديمقراطية لا تعدوا كونها نظاما يشبه إلى حد بعيد نظام الشورى في الإسلام مع الفارق بين حيثيات كل منهما. ومن تلك المصطلحات ما يلي :
(أولا: الديمقراطية
هي حريةُ ومساواةُ الناس ومشاركتهم, فهي حق الحرية والمساواة لكل فرد في المشاركة في نظام الحكومة, وغالبا ما تزاول عبر انتخاب ممثلين عن الناس ومن قبل الناس.
ثانيا: الأمة الديمقراطية
وهي بلادٌ ما, مع حكومة منتخبة بحرية, وعلى حد المساواة مع مواطنيها كافة .
ثالثا: النظام الديمقراطي
النظام الديمقراطي هو النظام الذي يتميّز بالإشتراك الحرّ والمتساوي في الحكم أو في عملية إتّخاذ القرارات المنظمة والمجتمعة.
رابعا: نظام حكومي ديمقراطي
وهو نظام حكم مستند إلى مبدأ اتخاذ قرار الاكثرية.
خامسا: والشيء الديمقراطي
هو الشيء المنظم الذي يُدار بواسطة الاعضاء, ويعني سيطرة المؤسسة من قبل اعضاءها الذين لهم حق الحرية والمساواة للاشتراك في عملية اتخاذ القرارات.
سادسا: الديمقراطي
يعني الاشتراك المتساوي بكل الأمور ذات الشأن عبر المشاركة المتساوية والحرة في الحكم, أو في اتخاذ القرارات لمنظمة أو مجموعة) . [6]
ومن كل ما تقدم يتبين أن الديمقراطية ليست نظام شامل للحياة.
المبحث الثاني: بين الشورى والديمقراطية
أقول لقد عرفنا مما قد سبق أن الديمقراطية تعني حكم الشعب من خلال إجتماع اراء الجميع بالتشاور وعلى قدم المساواة بين المرأة والرجل, وفي هذا التعريف قصور فاضح في اعطاء الديمقراطية حقوق الإنسان كاملة.
ذلك لأن الشورى في الإسلام -كما سنعرضه في بحث لاحق بحول الله تعالى- هو إجتماع اراء الناس جميعا في اتخاذ قراراتهم السياسية عبر التشاور وعلى قدم المساواة بين المرأة والرجل وحتى (الطفل) الذي لم تعتبره الديمقراطية مؤثرا في العملية السياسية كما سنبينه في حينه في بحث لاحق, وهذا من معاني قولي أن الديمقراطية قاصرة عن اعطاء الإنسان حقوقه الكاملة.
ولو اطلع الباحث على اطروحة الدستور التي طرحناها لعرف ما فيها من المساواة في الحقوق السياسية والواجبات للإنسان عموما بما فيه ذوي الاديان الأخرى والقوميات المختلفة, كما لم يضع أية اشارة إلى شيء اسمه تمييز قومي أو لوني أو عرقي أو طائفي أو غيره, وهذه هي مباديء الدستور الإنساني في الإسلام, وكلها نصوص دستورية مستنبطة من الشريعة الإسلامية, وعليه فالاسلام لا يبخس أحدا حقا.
المبحث الثالث: حول معنى رسمية دين الاسلام
أما حول معنى رسمية الإسلام ذلك الأمر الذي شغل فكر البعض فقد وددت القول هنا مبيّنا النقاط التالية على وجه الاختصار:
أولا: لقد بيّنتُ معنى كلمة الدين في بحث سابق, وكانت كلمة الدين في اللغة تعني الالتزام بما يعتقد الإنسان فيكون مدينا له وبه.
ثانيا: هناك ملازمة واضحة وجلية بين اعلان التدين بدين الإسلام وبين انتهاج مناهجه وعلى راسها ومقدمتها القرآن الكريم, ولا يمكن الفصل بين الاعلان عن أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام وبين الإلتزام بالشريعة الإسلامية في تشريعات دستور العراق.
ثالثا: أردت من بيان بحثي السابق الكشف عن اننا لا نريد نفاقا سياسيا ولا دستورا منافقا يقول أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام ثم تدين الدول التي تدير شؤون الشعب, بغير منهج الإسلام الذي يؤمن به الشعب ويريده الإنسان, وان أي فكٍ للارتباط بين التدين بالاسلام وبين اتباع مناهجه يعتبر وضع الأمور في غير مواضعها المنهجية فضلا عن اللغوية, كما فعلت دساتير العراق السابقة التي اعلنت ذات الشيء ثم اخذت تعاقب الانسان العراقي إذا ما صلى أو صام أو زار مراقد ائمته, أو تعففت نساؤه, أو تخلق بمكارم الأخلاق, أو دعى إلى فضيلة, أو نبذ رذيلة, أو أمر بمعرف أو نهى عن منكر, وما شابه من ممارسات النظم السابقة؟
رابعا: كما أريد التأكيد المنهجي على أن الله تعالى لم يرسل نبينا محمداً صَلَّى الله عَلَيةِ وَآلِهِ وَسَلَّم إلى البشرية عبثا, ولم ينْزل القرآن الكريم ليكون طقوسا عبادية فردية يمكن مزاولتها في زاوية المسجد أو جحر المنْزل على ما هي عليه الاديان الأخرى على وجه لأرض, ولو نظر الباحث المطلع إلى القرآن الكريم لوجد أن الله قد انْزل إلى الأرض خليفة فقال(إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) [7] .
ثم أمر الخليفة بالحكم بين الناس بالقسط فقال(فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) [8]
وكما نص على الخليفة بقوله تعالى (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ) آمراً إياه بالحكم بين الناس بالحق بقوله تعالى : (فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) ثم لم يترك الله توجيه الخليفة وتحذيره من مغبة اتباع المشتهيات الفردية والرغبات الحزبية والشخصية, بل أمره بالالتزام بالمنهج المنْزل عليه بقوله تعالى: (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ) [9]
فيأمره باتباع مناهج الحياة, التي كانت تأتى عبر المزيد من التشريعات تباعا حسب احتياج البشر لها فقال ( ِثُمّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإنجِيلَ) [10]
كما أمر نبيه محمداً صَلَّى الله عَلَيةِ وَآلِهِ وَسَلَّم الالتزام بتطبيق تلك المناهج التي يؤيد بعضا بعضا في مناهج المرسلين السابقين لكونها شريعة واحدة لكل البشر فقال له (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) فأمره بوجوب العمل به وامره بالحكم بقوله (فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَل اللهُ) كما نهاه عن العدول إلى غيره فقال (وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ﴾ 11]
ثم أمر البشرية بالالتزام بمناهج الحياة التي أرادها لعبادة فقال: (اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ) [12] لأن دعوة خليفة الله في عباده هي الحكم فيهم بما يحيي البشرية ويسعد الإنسانية.
ولأني لا أريد الاطالة في هذا الأمر بقدر ما أردت بيان حقيقة أن الإسلام دين الحكم والادارة والسياسة, ومنهج للحياة بقضها وقضيضها, وعليه فليس من سبيل إلى تحميل السياسة في الإسلام أو تحميل الإسلام على السياسة حتى يقال لماذا تريدون تسييس الإسلام ذلك لأنه سياسي قبل أن ينْزل الله تعالى آدم على الأرض يوم قال (لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) [13] وهذا إعلان جلي واضح عن إيجاد (الخليفة) قبل (الخليقة), للدلالة على أهمية الخليفة في الخليقة وتشريع الله لعباده.
ولعل من قائل يقول: ماذا سيضيف لنا تسييس الإسلام من حريات وما هي الضمانات التي تمنع تكرار نشوء حكومات استبدادية تمارس سلطتها من دستور ديني كما هو الحال في اغلب الدول الإسلامية العربية منها أو غير العربية)
فأقول مبينا هذا الأمر عبر الأمور التالية:
أولا: لقد تبين من خلال التلميح إلى بعض الحقائق القرآنية السالف ذكرها أن لا تسييس للإسلام, بل أن الإسلام دين الحياة الذي فيه من المناهج ما تهتم في إحياء الإنسان, والاعتزاز بانسانيته .
ثانيا: حول القول ماذا سيظيف الإسلام من حريات, أقول أن الحريات التي يعيشها الغرب بديمقراطياته الجميلة نسبة إلى الديكتاتوريات التي عشناها أبا عن جد, إنما هي أقل من القليل من الحريات التي يريدها الإسلام للإنسانية. ولو اطلع الباحث إلى ما قد كتبناه من اطروحتنا عن الدستور, لوجد أن فيها من الحريات السياسية والفكرية والعقائدية والدينية والاقتصادية والإنسانية في إطار الدولة واطار المجتمع على حد سواء ما لم تتوفر في الديمقراطية وإن كان بحثنا حول الدستور لا يحوي كل القوانين على الإطلاق بقدر ما كان اصولا عامة, ولوجد أن كل ما كان فيه من الايجابيات ليست إلا من مستنبطات القوانين الحيوية في الإسلام.
ومع ذلك أقول (نعم) نحن نحتاج إلى المزيد من الحريات, التي لا يمكن توفيرها عبر الديمقراطية التي تفتقر إلى الإسلام.
ثالثا: بالنسبة إلى الضمانات من أن لا يستغل بعض الساسة الحزبيين وغيرهم للإسلام بتوظيفه على سبيل الاستبداد, فأقول إن التخوف مطروح مع كل النظم والدساتير بما فيها الديمقراطية, وعليه فأين الضمانات التي يجب أن تتوفر فيما لو تحولت الديمقراطية في العراق إلى استبداد مشروع من قبل الديمقراطيين أنفسهم, ومثاله بيّن بين ايدينا مثل اسقاط رأي الاغلبية في موضوع سَنّ الديمقراطية لقانون فيتو الأقلية على الأكثرية وإلغاء أي قانون تشرعه الأغلبية إذا لم ترض به الأقلية, وهو أمر يُعَدُّ كفرا في عالم الديمقراطية في بلدانها.
ومثل قانون فرض نسبة معينة من النساء في الحكم وأروقة الدولة, وأنا شخصيا مع اعطاء المرأة اكثر من هذه الحقوق لأنها اكثر من نصف المجتمع على العموم, ولكن عبر الانتخاب وفرض نفسها بكفاءاتها وقدراتها على الواقع من خلال الاستفادة من الحرية السياسية والانتخاب, لكنما إذا جاء الأمر عن طريق الفرض والإجبار فإنه سيخيف ذلك لأن الفرض خلاف الديمقراطية, وأن الإكراه بالقوة يخيف الرجل الحصيف, لأنه اسقاط لنظام الديمقراطية نفسها.
ثم من يضمن لو اباحت الديمقراطية لحزب البعث بالعودة إلى المشاركة في الحكم كما يجري الان تحاور الديمقراطيين مع الديكتاتوريين والارهابيين القتلة والمجرمين الملطخة أياديهم بدماء الشعب الاعزل, علما أن القاصي والداني والعالم منهم والجاهل يعلم أن حزب البعث حزبٌ منهجه الانقلاب, وثقافته التآمر, وشأنه السرقة والنهب, وطبعه التدمير والتخريب, وديدنه الاستحواذ, ودأبه الإطاحة والإقصاء ونقض العهود ونكث المواثيق؟
ثم ما هي الضمانات ما لو فرضت الديمقراطية على الشعب العراقي واقعا سياسيا لا يرتضيه, وقد فعلت وما زالت تفعل مثل سنّها لقانون الحكومة العراقية المؤقت الذي صار يرجع إليه في كل المشاكل التي يراد منها الان تدويخ الجمعية الوطنية, وتطويع الحكومة العراقية, وتركيع الإرادة العراقية, حيث وضعت منه ما يشبه القنابل السياسية الموقوته في الواقع السياسي العراقي, مثل مشكلة نوع الفيدرالية التي أشارت إليه بكونها جغرافية حسب المنطلقات التاريخية (في المادة الرابعة من قانون إدارة الدولة المؤقت المفروض), مما خلق مشكلات آنية ويخشى أن تتجذر مستقبليا لعراق يعيش مرحلة البناء والتاسيس.
حيث أكد هذا القانون على أن (يقوم النظام الاتحادي على أساس الحقائق الجغرافية والتأريخية)
ثم حدد معالم التقسيم في المنطقة الشمالية للعراق على أسس يراد منها تقسيم العراق ولو بعد حين فيقول هذا القانون(يعترف بحكومة اقليم كردستان بصفتها الحكومة الرسمية للاراضي التي كانت تدار من قبل الحكومة المذكورة في 19 اذار 2003 الواقعة في محافظات دهوك واربيل وسليمانية وكركوك وديالى ونينوى).
فتشبث الاخوة الكرد بهذا القانون, رغم أن الديمقراطية تقول أن كافة أبناء الشعب العراقي بعربه وتركمانه وشيعته وسنته والكرد الفيلية والطوائف الدينية الأخرى يرفضون هذا القانون وخصوصا هذه البنود التي تبعث على تقسيم العراق وتقنن للانفصال.
وبموجب هذا القانون (الأمريكي _ البريمري) المشجع على البحث عن العوامل التاريخيّة فضلا عن الجغرافيّة لأغراض الأقلمة والانفصال فقد صار الاخوة الكرد يبحثون عن دليل يدعم مشروع انفصالهم ولو بعد حين, فيقول في المادة الرابعة منه ما يلي:
أ)- نظام الحكم في العراق جمهوري، اتحادي ديمقراطي، تعددي، ويجري تقاسم السلطات فيه بين الحكومة الاتحادية والحكومات الاقليمية والمحافظات والبلديات والادارات المحلية. ويقوم النظام الاتحادي على أساس الحقائق الجغرافية والتأريخية والفصل بين السلطات وليس على اساس الاصل او العراق او الاثنية او القومية او المذهب
ب)- يعترف بحكومة اقليم كردستان بصفتها الحكومة الرسمية للاراضي التي كانت تدار من قبل الحكومة المذكورة في 19 اذار 2003 الواقعة في محافظات دهوك واربيل وسليمانية وكركوك وديالى ونينوى. ان مصطلح (الحكومة الاقليمية) في كردستان الوارد في هذا القانون يعني المجلس الوطني الكردستاني، [ ومجلس وزراء كردستان والسلطة القضائية الاقليمة في كردستان].
ج)-ان حدود المحافظات الثماني عشرة تبقى من دون تغيير خلال المرحلة الانتقالية).
وعلى هذا المبنى الجغرافي والتاريخي الذي وضعته مصلحة واضع القانون المؤقت فإن كل من يحصل على دليل تاريخي وجغرافي يدعم انفصاله قوميا وعرقيا ودينيا وطائفيا عليه العمل على التقسيم والتحصيص والتمزيق والتشطير, ذلك لأن البيت العراقي مكون من طوائف وقوميات واعراق وغيرها.
ومن هنا فمن يضمن أن الديمقراطية لا تعمل على تشطير العراقيين وتجعلهم شذر مذر ؟؟.
رابعا: ولم يكن ذكري لهذه الأمور إلا من قبيل المثال لأقول أن التخوف وارد حتى من الديمقراطية التي فرح بها العراقيون وكأنها لائحة ضمان الجنة وصك الغفران للوصول إلى النعيم الخالد, على ما في الديمقراطية من ايجابيات لا يجوز انكارها, أما أنها كل شيء أو أنها كل الحياة فلا.
إضافة إلى أن الإسلام لا يمكن التخوف منه خصوصا إسلام أهل البيت الذين اذهب الله عهم الرجس وطهرهم تطهيرا, وبالاخص المدارس الفكرية الشيعية ذات المناهج الحضارية المتألقة, وأن الباحث النحرير والدارس القدير سيجد تلك المناهج قائمة في الحياة, وحاضرة عليها, وليست ببعيدة عن متناول البحث والتنقيب.
خامسا: أما بالنسبة الى التخوف من تكرار تجارب سابقة للمسلمين فإنما هو أمر موضوعي يمكن أن يقال لأية فكرة أو منهج ومشروع, إلا أن الأمور مطروحة بمناهجها, ووضوح مناهجها دال على حيويتها, وحيويتها تدل بذاتها على واقعها, كما قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيةِ وَآلِهِ وَسَلَّم ( إن على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نورا..) [14]
سادسا: ثم ليس من ضمان لأي مشروع من الانهيار والتحريف سوى الحالة الدستورية للحياة السياسية مضافا إلى وعي الإنسان العراقي وسمو ثقافته, وعلو همته, وحيوية تفكيره, وقوة إرادته على البناء.
سابعا: اقول ونحن معاشر العراقيين الآن على وجه الخصوص, والمسلمون بشكل عام, والبشر على الصعيد الأعم نحتاج إلى المزيد من الدراسات الفكرية والبحوث المنهجية لمعرفة الصالح من المناهج من الطالح والابيض الناصع من الأسود الكالح, كما نحتاج إلى بلورة الأفكار النافعة للمجتمع الإنساني, خصوصا وقد دخل العراق مرحلة جديدة تتسم بدخول الإنسان العراقي ميدان العمل والبناء, الأمر الذي يوجب علينا جميعا بلورة مناهج حيوية تحتاج إليها البشرية عموما, خصوصا وان العراق بلد القيم والمقدسات, وبلد الحضارات الالهية والمدنيات البشرية, وأن إنسانه متميز عن غيره إذا ما نهض من قمقمه المارد, وأفلت من بين المقابر الجماعية, ومخالب القوميين الطائفيين, ومنافي الهجرة والتهجير .
ثامنا: إن صياغة الواقع الجديد في العراق يحتاج إلى الانفتاح على الأفكار البنّاءه والمشاريع الحيوية.
تاسعا: الانفتاح يستلزم إلغاء ثقافة الحذف الفكري, ومناهج الإقصاء الثقافي والسياسي إذا ما صدرت فكرة أو فكر, منهج أو مشروع حيوي ممن لا يرتضيه البعض الآخر, لأن العراق بحاجة إلى مناقشتها ومدارستها حيث المنطق الحضاري يقول (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) [15] .
عاشرا: وأن الانفتاح يستلزم الحوار الهاديء والنقاش البنّاء, والتفاهم لبلورة سبل بناء الحياة وفق منهج الحوار الهاديء من اجل الوصول إلى الحقيقة حسب المنطق الحضاري القائل (وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [16]
المبحث الرابع: حول الاستفادة من دساتير العالم
ولعل هناك من يتخوف من الإسلام, متشبثا بضرورة انتهاج دساتير الأمم والشعوب الأخرى, متوقعا أن الإسلام يرفض ذلك, فأقول في معرض الجواب أن ما قدمتُ من بحث سابق حول الإسلام واعتماد القرآن الكريم كمنهج أساس للتشريع في دستور العراق, ذكرت فيه أن النص الآتي:
(الاسلام دين الدولة الرسمي ويعتبر المصدر الأساس في التشريع, ولا يعارض الاستفادة من القوانين الدولية العقلائية التي لا تتنافى مع الإسلام. ) وبهذا لا نتعارض مع الإسلام ونحترم إرادة الشعب, ولا نلغي الاستفادة من المشاريع العقلائية, خصوصا وان العقل أحد الاصول الفكرية في استنباط الاحكام في شريعة الإسلام.
المبحث الخامس: حول الاقليات الدينية
وقد يتخوف البعض من تشريع الإسلام معتبرا إياه سببا في إلغاء الحقوق الدينية والمدنية للاقليات الدينية الأخرى. وهذا هو تخوف له مبرره وهي تجارب المتطرفين من الداخلين على الإسلام بمناهج لا تمت إليه بأية صلة ولا ترتبط به بأية علاقة.
صحيح يجب على البشر أن يدينوا بدين الله كما أمر عزّ من قائل ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ ﴾ [17]
وصحيح أن يوم القيامة ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [18]
ولكن﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [19] والسبب في ذلك وضوح الإسلام ومناهجه وبه﴿ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْد﴾ [20] والإنسان حر فيما ينتحب ويريد.
وعليه فمن يريد أن يكون على دينه ولا ينتهج الإسلام فإن قانون ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [21] سيكون هو الحاكم في هذا المجال.
وبناءا على قانون (لَكُمْ دِينُكُمْ) يكون لذوي الأقليات الدينية حقهم في انتهاج دينهم الذي يدينون والالتزام بعباداتهم التي يتعبدون, بما في ذلك قوانين احوالهم المدنية إضافة إلى الدينية والرجوع إلى مرجعياتهم الدينية في تنظيم وضعهم الديني وما يرتبط به.
وعليه فيكون للأقليات الدينية في العراق كامل الحقوق السياسية (كمواطنين) والتي يتمتع بها المسلمون مضافا إلى حقوقهم المدنية بموجب دينهم ومرجعياتهم الدينية.
كما هو الحال بالنسبة إلى المسلمين فلهم كامل حقوقهم السياسية كمواطنين مضافا إلى حقوقهم المدنية التي يجب أن تكون بموجب شريعتهم ودينهم من منطلق(وَلِيَ دِينِ) وهذا معنى قولنا بوجوب الإلتزام بالقرآن الكريم كمصدر أساس في التشريع الذي يحفظ للجميع حقوقهم, بما لم يكن لمنهج غيره مثل هذه القدرة والمرونة في التشريع.
المبحث السادس: حول الاقليات القومية
من ابرز ما يجب على جميع العراقيين من عرب وكرد وتركمان وغيرهم أن يعرفوا انهم اليوم يريدون بناء عراق غير قومي, بمعنى انه لا يريد أن ينتهج المناهج القومية الغابرة, ويكره العراقيون تسيسس القومية الذي وضعهم في دائرة المقابر الجماعية والتهجير القسري والاعدام المجاني الذي يوجب على ذوي القتيل دفع ثمن الرصاصة التي تقتله, وهذا ما يوجب على الجميع ترك مخلفات الصراع القومي بينهم وبين النظم العراقية القومية السالفة. كما يجب الاستجابة لمتغيرات الحياة الحضارية.
وحينما تتغير الظروف وتتجدد المراحل يجب أن تتغير الثقافة وتتطور المفاهيم تباعا للمستجدات الحضارية, كما يجب أن تغير المنطلقات وفق انطلاقة الروح الحضارية وفرض نفسها على الواقع الجديد بما يخدم الإنسان ويحيي المجتمع, وبناءا على تطور الحياة نحو الأكمل الأفضل, يجب العمل بترك الثقافة الناتجة من مخلفات الصراع القومي للحكومات السابقة وافرازاتها الجاهلية القديمة, والعمل على بناء الحياة وفق منطق الحياة وعلى أساس ثقافة البناء لا ثقافة الانانيات القومية والنعرات الطائفية والصراعات الحزبية, وهذا هو منطق حضاري يجب الالتفات إليه والعمل على أساسه في بناء العراق.
وإلاّ فإن بقاء القناعات القديمة على حالها وبقاء ثقافة النّزعات القومية السالفة عالقه في اذهان بعض القوميين من العرب أو الكرد أو غيرهم, والتشبث بنَزعات الانفصال وروح التشرذم سيؤدي إلى تضييع الفرص على العراق في عملية البناء.
وأن تضيع الفرص لَمِنْ ادهى الكوارث, والتفريط بها لَمِمّا يعاقب الله عليها في سنن لا تبقي ولا تذر, وما ديار الظالمين عنكم ببعيد ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [22]
المبحث السابع: العراق الجديد واستيعاب الثقافة الديمقراطية
وبعد هذا البحث الموجز رأيت بلورة الأمور التالية لزيادة المنفعة:
الأمر الأول: على جميع أبناء شعبنا معرفة أن الديمقراطية نظام يعمل على اخذ رأي كل فرد من أبناء المجتمع فيما يخص شؤونه السياسية ومما يرتبط بتقرير المصير. وهو ما يشبه إلى حد بعيد نظام الشورى مع بعض الفوارق بين حيثيات كل من الشورى والديمقراطية, مثل قيمية الإسلام الذي يرفض التحالف على حساب الحق والتآزر في اتخاذ القرار الباطل أو ما يضر بالإنسان والإنسانية, علما أن الشورى ليست فقد تعني الاستفتاء والعمل على رأي الاغلبية بل اجالة الرأي وجمع العقول من أجل الوصول إلى اصوب الآراء واكملها واتمها وأفضلها من خلال الاستفادة من العقل الجمعي.
الأمر الثاني: حينما تتبنى جهة سياسية أيا كانت تلك الجهة, مبدأ الديمقراطية يجب عليها الالتزام بمنطقها القائل باحترام رأي الأغلبية عند التصويت, ولا تفرض الاقلية رأيها على رأي أغلبية الشعب عند اتخاذ القرار, لما يحمل هذا الفرض من استخدام لثقافة الاستبداد وفكر التطرف والتفرد.
الأمر الثالث: إذا رأت الأغلبية وفق نظام الشورى أو ديمقراطية الانتخاب التصويت على نظام سياسي معين أو اداري أو غيره يجب على الدولة ونظام الحكم عدم الخضوع لإرادة قوى الضغط الدولي أو الاقليمي أو حتى المحلي.
الأمر الرابع: يحب على كافة القوى السياسية والشعبية الاستفادة من نعمة الحرية الكامنة في هذا المبدأ والبدء بالعمل من اجل البناء وعدم تضييع الفرض بالتناحر القومي والانهماك بتحقيق التطلعات الحزبية, وبذل فرصة البناء, في صغائر الأمور.
الأمر الخامس: على كافة القوى السياسية الاهتمام بالمصالح العامة وتقديمها على المصالح الحزبية أو القومية أو الشخصية الخاصة, خصوصا حينما يخرج الشعب اغلبية الأصوات عملا بالنظام الديمقراطي في التصويت.
الأمر السادس: على كافة القوى السياسية وضع هذه المرحلة موضعها وتقييمها كنعمة الهية توجب عليهم مراجعة المنطلقات القديمة التي كانوا ينطلقون بها يوم كانوا في صف المعارضة للنظام البائد, والعمل على منطلقات التآلف والاجتماع والتآخي, وبناء الدولة الجديدة, والعراق الجديد, بِنَفَسٍ جديد, وثقافة جديدة, ومنطلقات جديدة لبناء البلد الجديد, بالاستفادة من الحالة الديمقراطية التي لم يكن ليألفها العراق من قبل.
الأمر السابع: على الأخوة السياسيين الكرد تقييم المنطق الحضاري لإخوانهم السياسيين الشيعة, الذين ينطلقون من المنطلقات الحضارية في البناء, فعيّنوا رئيسا للعراق من الكرد, ووزيرا للخارجية من الكرد, ونوّابا لرئيس الوزراء ورئيس الجمعية الوطنية واعضاء من الحكومة وغيرهم علما أن قانون الانتخاب وفق المنطق الديمقراطي يقضي لكتلة الأغلبية تعيين وزراءها والحكمة وما يرتبد بها من كتلتها, فتراهم بتنازلون عن هذا المبدأ لغرض العمل من اجل العراق ولتخفيف حدة التخوفات القومية.
الأمر الثامن: على كافة الفرقاء السنّة تقدير وتثمين المنطق الحضاري الذي عملت به كتلة الأغلبية الشيعية إذ ادخلتهم ميدان المشاركة السياسية في وقت قاطعوا الانتخاب ولم يصوّتوا على الحكم وكانوا من المناهضين فضلا عن كونهم معارضين, فادخلوهم في العملية السياسية رغم اقتضاء المنطق الديمقراطي ابقائهم خارج الحكم وبعيدا عن المشاركة السياسية.
الأمر التاسع: على الاخوة السنّة تثمين الموقف الحضاري لإخوانهم الشيعة يوم تسامحوا معهم, وهم ضحايا ممارسات الاجهزة السياسية السنّية من الاعدامات الجماعية, والمقابر الجماعية, واساليب التعذيب الوحشي, وإبادة علماء التشيع لأهل بيت نبيهم, وقتل وتشريد واغتيال رجال الفكر الحضاري على عهد الحكم البائد, وبعد سقوط النظام البائد صار الشيعة يعانون من المفخخات والاغتيالات الفردية والجماعية وسياسة تخريب اقتصاد الشعب وتدمير بُناه التحتية إبقاءاً للعراق خربة على أهله, ولم يأت ذلك كله إلا من تدبير وتخطيط وتنفيذ القوى السياسية السنيّة في داخل العراق, والأخرى المتسللة في جنح الظلام من خارج الحدد.
الأمر العاشر: الفكر الحضاري للسياسيين الشيعة ألزمتهم أخلاق أهل البيت عَلَيهم السَلام في تعدي منطق الديمقراطية إلى التسامح, لأن الديمقراطية لا تعمل بمبدأ التسامح بقدر ما تعمل بالانتخاب وحكومة رأي الأغلبية وإلزام الاقلية بمفاد الرأي الانتخابي, من هنا لزم على السنّة تقدير هذا الجميل واحترام هذا المنطق الحضاري الجميل, لأن المنطق الحضاري يقول: ﴿هَلْ جَزَاء الإحْسَانِ إِلاّ الإحْسَانُ﴾ [23]
الأمر الحادي عشر: بما أن الديمقراطية ليست نظاما شاملا للحياة, بقدر ما هو اعطاء الشعب حريته في تقرير المصير, وجب على الشعب أن يقرر مصيره في انتخاب نظام الحكم فيما إذا كان مركزيا أو اتحاديا, ويجب على الجميع الالتزام برأي الشعب فيما إذا أراد المركزية أو الاتحادية, أو فيما إذا أراد نوع النظام الاتحادي الاقليميان يكون بناءه على الأساس الجغرافي, أو على المبنى الاقليمي القائم على أساس المحافظات (نظام الولايات الادارية).
كما أن للشعب كامل الحرية في تقرير ما إذا كان الإسلام الأساس في تشريع الدستور مع الاستفادة من تجارب الأمم إذا لم تتعارض والقرآن الكريم, أو جمع القرآن الكريم مع شرائع البشر الأخرى ليكون هو واحدا منها في التشريع, وتذويبه في خضم المطالب الاستعمارية الكبرى.
الأمر الثاني عشر: وبناءا على المنطق الديمقراطي يجب على الشعب التصويت على دستوره الذي يريد بحرية تامة مع الاطلاع الكامل على كل ما ورد فيه لأنه الأساس في تقرير المصير وتحديد معالم المستقبل.
ولبيني الشعب عراقه على المباديء الحضارية وليعرف العراقيون الشرفاء أن منطق الحياة يؤكد على البقاء للاصلح في الحياة والأنفع للإنسانية, فيعلن ذلك في قاعدة: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ﴾ [24] .