مغالطة التفريق بين البعثيين والصدّاميين
المتتبع للمسار المنهجي لحزب البعث لايجد أي مجال للتفريق بين حزب البعث كبعث عفلقي وبين ما يسمونه بحزب البعث الصدامي, وأن بحثنا هذا يتطلب تسليط الضوء على الفصل الأول الذي يبين أن صداما هو المنفذ الوحيد لتطلعات عفلق الدموية في العراق, بل أن صدام هو البعثي الوحيد الذي فهم أن البعث حزب فارغ لا استراتيجية له ولا منهجا فكريا واضح المعالم عنده, ولعل عفلق ادرك أن صاحبه هو الشخص الوحيد الذي يمكنه أن يبقي على مشروع عفلق السرابي الذي اخذت أعضاء القيادات الأخرى يدركونها ويتمردون عليها.
من هنا أقول:
أن هناك مغالطة بيّنة دأب عليها الإعلام العربي عموما, ونطق بها السياسيون, ثم أرِيدَ تدوينها في الدستور الدائم للعراق ارضاءا لبعض الأطراف السياسية من هنا وهناك, والمغالطة تكمن في الفصل بين حزب البعث وبين ما صنع صدام بالعراق وشعبه من حرمان وقتل وتشريد وتعذيب, ومن تهجير ومقابر جماعية واقصاء وطائفية وما كل ما يندى له جبين الإنسانية ويخجل منه من يمتلك أدنى احساس انساني أو شعور وطني أو ابسط معرفة بابسط القيم الحضارية في الحياة.
وما الهدف من هذا التفريق إلا الفصل بين البعث كحزب وبين ما فعله صدام لغرض تلميع صورة البعث الذي دمر العراق وأهلك الحرث والنسل وعاث في الأرض فسادا, ليعاد تأهيله لتدمير العراق من جديد, وكانما الذي حكم العراق والذي كان يطبّل له خلال ال(35) عاما هو غير البعث, وكأن لم تكن الشعارات شعارات البعث, والممارسات ممارسات البعث, والمنهاج منهاج البعث, والفكر فكر البعث, والمنطلقات مطلقات البعث, والسبيل سبيل البعث منذ التأسيس حتى السقوط الاخير.
إن حقيقة البعث وواقع الحال منطبقان انطباق النعل بالنعل, والقذّة بالقذّة, وأن البعث مشروع قد اُسس واُريد منه, وله, وبه ما قد أدّاه بحذافيره, وكان الرجل الوحيد الذي تمكن من اداء دور البعث كحزب في العراق, وتطبيق حقيقة منهاجه المبهم هو البطل القومي وحارس البوابة الشرقية وفارس القادسية والفاتح العظيم والملهم المبدع الذي هامت به جموع العروبيين وحشود القوميين وجماهير التحرريين, وَوَلِهَ به السلفيون والتكفيريون, حتى صار (صدام حسين التكريتي) إمام السلفيين؟!؟
وحتى لا يتعجب أحد من قولي (إمام السلفيين) لابد من بيان أن الفكر السلفي يؤمن بإمامة وقيادة بل وبوجوب مبايعة وطاعة الإمام سواء كان ذلك برّا أو فاجرا, وبالتالي فصدام إمام السلفيين بلا منازع بناءا على قاعدتهم الفكرية تلك, كما هو قدوة التكفيريين بلا جدال, وما يُنْبِيِكَ عن ذلك إلا واقع الحال من المجازر الدموية السجال في عراق القيم والمقدسات.
أما الأمر الذي أريد بيانه هنا هو أن عفلق (مؤسس البعث) ومفكره ومنظّره قد بنى حزبه على فكر طوباوي لا فلسفة له إلا ما قد التقطه من فُتات الموائد الفكرية للماركسية الفرنسية وما لف لفها.
ثم أسس حزبه على قواعد رملية هشة كما سأبيّن هذا في محله.
ثم أمر البعثيين جميعا أن يبايعوا صداما قائدا ملهما ينفذ الفكر العفلقي, وبالتالي فصدام يمثل اصالة الفكر العفلقي, وما مناهج التلميذ إلا مناهج الاستاذ, ومآرب هذا هي مآرب ذلك, وانه قد شخّص الرجل القوي الأمين على أهداف الحزب وأمر جميع اتباعه بطاعته, وبهذا فإن كل ما قد فعله صدام هو ما أراده الحزب بمؤسسه عفلق, وبكوادره التي بايعته وصدّقته وسبّحتْ بحمده تسبيحا, وهللت لشخصه العروبي تهليلا, وكبّرتْ لعظمته القومية تكبيرا, وخرّتْ لبهاء نبراته التحررية إلى الاذقان.
إن التفريق بين البعث العفلقي البعث الصدامي تفريق بل مغالطة يراد بها توهيم الأمة والضحك عليها.
ولغرض بيان هذه المغالطة لا بد من بيان الحقائق التالية:
الحقيقة الأولى: عفلق سارق حزب البعث منذ التأسيس .
الحقيقة الثانية: لم يكن لعفلق كتابا يبين فيه معالم نظرية حزبه .
الحقيقة الثالثة: لم تكن لعفلق شخصية القائد القدوة.
الحقيقة الرابعة: الشخصية التآمرية لشخصية قائد حزب البعث .
الحقيقة الأولى: عفلق سارق حزب البعث منذ التأسيس
المعروف أن عفلق هو السارق لأفكار حزب البعث من مفكره زكي الارسوزي.
وأن السارق كاذب والكاذب يصنع المستحيل من اجل تمرير مشروعه ولو على حساب القيم والدوس على المباديء الإنسانية تحت الاقدام.
لقد أكد قيادي كبير سابق في البعث [1] على أن الحزب قد تاسس على يد الأب الروحي لمؤسس الحزب وهو زكي الأرسوزي إلا أن عفلق ورفاقه قد سرقوا ذلك الجهد والحزب حيث صرّح صلاح عمر العلي وهو عضو لما كان يسمى بمجلس قيادة الثورة وعضو لما كان يسمى القيادة القطرية الأسبق قائلا:
(في الواقع قبل أن يتأسس الحزب بشكل رسمي كانت هناك مرحلة إرهاص لولادة هذه الحزب، هذه المرحلة الواقع يعني سبقتها كتابات وأفكار مهَّدت لولادة الحزب، وكان أبرز هذه الأفكار اللي(التي) طُرحت على يد الأستاذ زكي الأرسوزي وهو أيضاً عربي من الأسكندرون...هذه المرحلة - في الواقع - هيَّأت لولادة الحزب، الحزب تأسس إذن بناءً على هذه الأفكار اللي(التي) طرحت على يد الأستاذ زكي الأرسوزي) .
فقاطعه المُحاوِر بقوله أن: (زكي الأرسوزي كان هو قومي علوي ينتمي إلى لواء الأسكندرون، يقول أو يدعي دائماً بأن ميشيل عفلق هو الذي سرق منه الحزب، وأنه هو صاحب فكرة واسم الحزب الأساسية، وأنت الآن قلت إن كتابات زكي الأرسوزي ساعدت أو ساهمت بشكل أساسي في قيام الحزب ؟ ).
فأجاب صلاح عمر العلي مؤكدا ذلك بقوله: (في الحقيقة إحنا(نحن) لازلنا..أجيال الحزب.. لازلنا نعتبر الأب الروحي لهذا الحزب هو الأستاذ زكي الأرسوزي.. ) .
ووفق منطق القيم الحضارية التي تتجلى في الصدق والامانة ومحبة الإنسانية واحترام جهود الآخرين وحماية حقوقهم, فإن السرقة مهما كانت صغيره تدل على القدرة على تجاوز الحقوق والقابلية على تزوير الحقائق وتحريف الأمور وفي مقدمة ذلك سرقة جهود الآخرين.
وعلى هذا فإن عفلق كان سارقا لجهود مؤسس حزب البعث كما قال الوالهون في شخصية عفلق نفسه, والسارق لا يمكن الثقة به ولا بالمشروع الذي يتبناه ويدعيه.
الحقيقة الثانية:لم يكن لعفلق كتابا يبين معالم نظرية حزبه
من عادة المؤسسين أن يؤسسا منهاجا يثبت معالم مشروعه الذي يريد من الناس التزامه وتبنيه, ولو تصفح الباحث العلمي النْزيه تاريخ المؤسسيين مهما كان تأسيسهم على حق أم على باطل يكتشف أن أول أمر يقدم عليه المؤسسون هو وضعهم للناس منهاجا واضح المعالم, ثم يدعون الناس إليه, وتلك هي حقيقة لا يمكن تجاهلها على الإطلاق, لأن من بديهات أية دعوة هي إعلان منهاج مكتوب على الملأ من الناس ليتم دعوتهم إليه, والا فمن غير المنطقي أن تنطلق دعوة ثم يراد للناس التمحور حولها ولا يكون لها منهاج فكري وعملي مكتوب تقرأه الناس وتقتنع به الأجيال ؟
وحزب البعث حزب اسسه عفلق كما يؤمن به طلابه ودعاته, ولم يكن عفلق معروفا يوما ما بأنه قد وضع الكتاب الفلاني أو الموسوعة الكذائية لتكون المرجع الفكري المُمَنْهَجَ والعلمي المدروس الواضح المعالم الذي يخلق في الإنسان القناعة حينما يدعى إليه. وبالتالي فلم يكن لمؤسس حزب البعث منهاج مكتوب أو مطبوع أو مدوّن يحدد معالم نظرية حزب إسمه البعث.
من هنا فعفلق لم يكن مُنظّراً للبعث وانما كانت كلماته تلفيقية, وفكره خليط من متناثر لأدبيات الماركسية الفرنسية ايام دراسته في باريس, متزامنا مع ارهاصات التمحور القومي العربي على اثر قيام حزب (الاتحاد والترقي) القومي التركي في نهايات الدولة العثمانية
اختلطت بالفكر البرلماني الذي لا ينسجم مع الفكر الماركسي و (سرعان ما دخل في الانتخابات البرلمانية، وفي أول انتخابات شارك فيها هذا الحزب فاز على حوالي 18 عضو برلماني، وكانت كافة الندوات اللي(التي) تُعقد في سوريا كانت تُعقد في المقاهي، في المنتديات العامة المكشوفة، ثم اختلط بما قد اقتبسه من فكر البعث لمؤسسه زكي الأرسوزي) (2).
ثم مزج عفلق ذلك الحزب بالخليط الاشتركي بعد دمجه حزبه (البعث العربي) بالحزب (العربي الاشتراكي) لأكرم الحوراني.
فصاغ منه مزيجا هجينا,لم يكن من بَناة فكره, ولا يمثل نسيجا فكريا متجانسا ولم يكن مدوّنا على رؤوس الاشهاد لتقرأه الأجيال وتفهم معالمه وتقتنع به وذلك هو(حزب البعث العربي الاشتراكي), كما تدل عليه الدراسات المعنية بنشأة الأحزاب القومية العربية ومنها هذا الحزب.
بل قد خلّف بعد استلام حزبه السلطة في العراق كلمات خطابية القاها في مناسبات حزبية تفتقر إلى العمق وتحتاج إلى الوضوح ثم دوّنتْ تلك الكلمات بكتاب سموه (سبيل البعث), وكما قال صلاح عمر العلي (أنا ما ادعيت ولا مرة أن أفكار الحزب واضحة وكاملة..لم تكن واضحة بالوضوح المقصود, يعني, متكاملة وواضحة كاملاً) [3] أما لماذا انخدع بها صلاح عمر العلي وأمثاله ؟
فيعزي صلاح عمر العلي الأمر الى انه قد اقتنع بها على افتراض أنها ستتطور في المستقبل, وبناءا على هذا الافتراض غير العلمي اقتنع هذا القيادي الكبير بافكار ناقصة على أمل أن تتبلور في المستقبل المجهول, فتراه يقول:
(لكن حقيقة الأفكار اللي(التي) قرأتها أنا أقنعتني بأن هذا الحزب في المستقبل ربما يطور أفكاره ويصل إلى حالة من التكامل) [4] وسوف نتحدث عن هذا الإيمان بهكذا الافتراض خلال البحث.
الحقيقة الثالثة: لم تكن لعفلق شخصية القائد القدوة
الحقيقة السابقة قد بيّنتْ أن عفلق لم يكن قد ألّف أو كتب منهاجا لحزب البعث, كما لم يكن لحزب البعث منهاجا فكريا واضح المعالم ومعروف المباديء, وعلى أثر هذه الحقيقة تنبؤنا الحقائق التاريخية الأخرى أن شخصية هذا القائد الذي لم يكن قد وضع لحزبه منهاجا فكريا قط إنما هو ذو شخصية مهزوزة دائما, ومنْزويا عند الأزمات, متضرعا طالبا العفو عند السجن, ملتمسا التخلص من أية أزمة سياسية تواجهه.
وكمثال على ذلك نذكر الشواهد التالية:
الشاهد الأول: انهيار القائد المؤسس ميشيل عفلق في السجن
الحق أن القائد المؤسس يجب أن يكون على درجة عالية من رباطة الجأش والثبات عند هبوب العواصف, ليصبح الرجل القدوة لمن يريد انقيادهم لفكره ومنهجه, بينما نجد عفلق على العكس من ذلك تماما, كان سرعان ما يتراجع أمام الضغوط السياسية التي يتعرض لها في السجن.
هذه الحقيقة نُبيّنها من فم أحد القادة السابقين للبعث حينما يوجه إليه السؤال التالي بقوله :
(وبعد انقلاب حسني الزعيم في سوريا عام 49 اعتُقل ميشيل عفلق في 11 يونيو 1949 فأرسل رسالة إلى حسني الزعيم وُصفت بأنها رسالة خنوع وخيانة قال فيها: إننا على استعداد لاتباع خط غير منحاز ولكف لساننا إن كانت هذه رغبتكم -يخاطب الزعيم- أما بالنسبة لي فقد قررت اعتزال السياسة نهائياً، أعتقد أن مهمتي قد وصلت إلى نهايتها وأن طريقتي ليست ملائمة للعهد الجديد).
وبعد هذا يسأله المذيع مستوضحا عن الأمر بقوله (ماذا تمثل هذه الرسالة في تلك المرحلة لزعيم حزبي كان ينظر له الناس بتقديس ؟).
هنا يجيبه العضو السابق لما كان يسمى بالقيادة القطرية لحزب البعث بقوله: (أنا بالحقيقة.. غير مؤهل لمناقشة هذه الرسالة أو هذه.. هذا الموقف) [5] .
ومن هذا تتجلى حقيقة عفلق الضعيفة, إذ مهما كان ظرف القائد القوي والمؤسس القدير الذي تنظر إليه قواعده وقيادات حزبه الذي يريده رائدا للعرب, يجب أن يكون على درجة من القوة ورباطة الجأش وثبات الموقف, وصدق اليقين, وليس الاهتزاز والهزيمة والانطواء كما هو حال مؤسس حزب البعث.
الشاهد الثاني: لقد دوّن المؤرخون هزال شخصية عفلق في هذه الرسالة
وبنفس المقابلة يتوجه السؤال إلى صلاح عمر العلي عما قد تناول المؤرخون عن البعث والعراق قائلا له :
(إن حنا بطاطو حينما تناول التعليق على هذه الرسالة في الجزء الثالث من موسوعته عن العراق قال في صفحة 34:
خلَّفت هذه " الرسالة " انطباعاً لصورة إنسان ضعيف وجبان بالوراثة، وأصيب أتباع عفلق قبل غيرهم بصدمة آنذاك.
وهذا هو تعليق حنا بطاطو حول هذا الموضوع) [6]
فيكون جواب صلاح عمر العلي أن : (هناك ملابسات، هناك, دواعي معينة, أنا لا أعرف في الحقيقة الأجواء التي أحيطت بميشيل عفلق لكتابة مثل هذه الرسالة) [7] .
وبهذا الجواب يثبت للتاريخ بالدليل البسيط أن شخصية القائد المؤسس لحزب البعث ضعيفة مهزوزة متداعية عند الأزمات والشدائد, وحينما يواجه السجن ينهار, ويقرر الاعتزال, ويلتمس العفو, ويعلن التراجع والاعتذار.
الشاهد الثالث : عفلق يخالف شعاراته الحزبية لمصلحةٍ انتهازيةٍ
ويتبين ذلك من شاهد واحد هو تراجع عفلق عما قد قطعه من التزام وانهزام أمام حسني الزعيم حينما استعطفه من قبل.
ويتبين ذلك من خلال الحوار السابق عندما يتوجه السؤال صلاح عمر العلي بالقول التالي إن :
(انقلب سامي الحناوي على حسني الزعيمِ, والرجلِ الذي طلب العفو وظهر بهذا الوضع, عرض على ميشيل عفلق وزارة التربية والتعليم وكان يُنظّر للانقلابيين آنذاك على أنهم ديكتاتوريين ومن المفترض أنهم لا يتوافقون مع مبادئ الحزب, فقبلها عفلق في 14 أغسطس 1949 وبقي إلى 19 نوفمبر، والحناوي يوصف بأنه الديكتاتور العسكري الثاني، أما تعتبر هذه أيضاً ذلة كبرى في تاريخ الحزب؟).
وبعد هذه المسائلة يجيب صلاح عمر العلي بقوله: (الواقع أنا لا أملك التعليق على كل هذه المواقف لأسباب ذكرت لك إياها..).
من هذا لحوار يتبين أن عفلق الذي التمس من حسني الزعيم العفو والمعذرة في السجن لقاء الافراج عنه وكان بعدها ينظّر على أن الحناوي ديكتاتور, وإذا به يتراجع بعد انقلاب الحناوي على حسني الزعيم, وينقض كافة التعهدات التي قطعها على نفسه في ترك العمل السياسي, ويعود إلى العمل السياسي ويشغل منصب الوزارة التي عرضها عليه الديكتاتوري الآخر الحناوي كما كان يراه.
فكيف بحزب لا يؤمن بالديكتاتورية ويدعي الوطنية ثم يخضع لديكتاتورية حسني الزعيم ويقطع على نفسه وعلى الزعيم التراجع عن العمل السياسي, ثم يعمل بعدها في وزارة حكومة دكتاتورية ثانية كما هو المعروف لديه ولفكره من ذي قبل ؟
ألا يدل هذا الموقف المترجرج على الانتهازية خصوصا من قائد للحزب والأب الروحي للاجيال الحزبية التي يروم تربيتها على منهجه المبهم وفكره غير المكتوب وغير المثبت للعلن كما قد أسلفنا البيان فيه من قبل, ألا يدل هذا على الشخصية الانتهازية لقائد الحزب ومؤسسه؟
ومن كانت هذه شخصيته فهل يصح اتباعه الاقتداء به؟
ألا يعني الاقتداء به اقتداء بالمنهج الانتهازي والتلمذة على مشروع مصلحي لا يمت إلى الواقعية والإنسانية بشيء ؟
ثم إذا لم يصح الاقتداء به فمن هم الذين اقتدوا به ؟
ألم يكونوا إما انتهازيين مثله, أو مخدوعين به وبالشعارت الكاذبة التي كان يرفعها ؟
ألا يعني أن المخدوعين به مخدوعون بافكار لم يثبت بعد لها طعما ولم يتبين لها نضوجا قط؟
ألا يكون مَثَلُ المخدوعين به وبأفكار كمثل من يبرم صفقة على ثمر لم تتبين بعد طبيعته ومعالمه وشكله وطعمه, وكانما اشتروا في صفقتهم المجهولة بضاعة غامضة معتمدين على ثقتهم بالبائع الذي تبين من قبل انه غير أمين في المعاملة مع سوق رفاقه من أهل الشام يوم كان قائدا وامينا وزعيما لهم يقتدى به ؟.
الحقيقةالرابعة: الشخصية التآمرية لشخصية قائد حزب البعث
لقد عرف عن عفلق انه انتهج منذ البدء مع رفاقه السوريين قبل العراقيين منهج التآمر على اتباعه, ليكون مثله مثل طائر يضع بيضه فإذا خرجت فراخه هجم عليها ليأكلها واحدا تلو الآخر.
وحينما يحاور المذيعُ, جليسه البعثيَ القديم صلاح عمر العلي مُذكّرا إياه بالمنهج الذي التزمه مؤسس الحزب مشيل عفلق في تصفيته القيادات التي آمنت به وبحزبه.
وانا اطلق عليها القيادات التي انخدعت بكذبة كذبها على العراقيين رجل إسمه عفلق, ولعله ادرك انهم كانوا يريدون العمل على شيء اسمه البعث وانهم سيطالبونه يوما ما ببيان لتحديد المنهج الفكري للحزب القومي العربي الاشتراكي التحرري الذي آمنوا به وسلّموا قيادهم له.
فكان يعمل عفلق جاهدا على إقصاء وتصفية رفاق حزبه الذين بدأ يفهم انهم يطالبونه ببيان حقيقة أفكار الحزب الذي اعتقدوه وأهدافه ومصداقية شعاراته التي طرحها لهم, فيذكر المُحاوِرُ لصلاح عمر العلي مُعدِّدا نماذجا من حالات الإقصاء والتطهير العفلقي لكبار القيادات الفاعلة في حزبه والرعيل المتقدم من تلامذته بقوله:
1. (في المؤتمر القومي الثالث: فُصل الرِماوي وتياره.
2. في المؤتمر القومي الرابع تخلَّص ميشيل عفلق من فؤاد الركابي الذي كان ينظر إليه -كما ذكرت أنت وأكدَّت في حلقة سابقة- نظرة احترام وتقدير من كل البعثيين في العراق..
3. في المؤتمر الخامس أطاح ميشيل عفلق بمنافسه اللدود أكرم الحوراني الذي كان له كاريزما وشعبية وزعامة تفوق عشرات المرات ما كان يتمتع به عفلق.
4. كما أطاح بعبد الرحمن منيف الروائي المعروف الذي يعرفه كل الناس. وأطاح بغسان شرارة, وفيصل حبيب الخيرزان, وعبد الوهاب الشمتلي.
5. في المؤتمر السابع تخلَّص من علي صالح السعدي ومن حمود الشوفي الذي ذكرت أنه كان يعتبرهما غيرَّا في أفكار الحزب ومن ياسين الحافظ ومحسن الشيخ راضي وحمدي عبد المجيد وهاني الفكيكي وغيره ممن كان عفلق يتخلص منهم بشكل..(وبآخر) فهل كل هؤلاء غلط؟ كل هذه الشخصيات التي كلها شخصيات معروفة في التاريخ الحزبي البعثي كانت كلها على خطأ وعفلق الذي كانت أفكاره متناثرة ومفككة وغير واضحة هو الذي كان على صواب؟ ).
فيجيب هنا صلاح عمر العلي مؤكدا تلك الإقصاءات التي اقترفها عفلق تجاه قيادات الحزب الذي آمن به وبفكره المجهول, وكان جوابه واضحا في التأكيد على المنهج العفلقي في التصفية والإقصاء قائلا:
(أرجو ألاّ يُفهم من كلامي بأنه أنا يعني مهتم بالتأكيد على أن عفلق لم يقع في أخطاء أو أنه شخص مُنَزَّه من الخطأ، لأ ليس هذا.. (لقد) وقع في أخطاء.. ) [8]
أما النتيجة التي يجب أن يخرج بها الباحث بشؤون البعث, هي أن موقع عفلق كمؤسس للحزب وكأب روحي لمن آمن به واعتقد بقدسيته في اوساط البعثيين العراقيين, وقد عرف حقيقته أبناء جلدته وبلدته سوريا من قبل, يفرض عليه أن يكون أبا حنونا يرؤف بالبعثيين الذي اعتقدوا به, وسلّموا قيادهم إلى فكر مجهول وقائد متزلزل الشخصية, ويجمعهم على الحزب الذي اسسه لهم, ويحل مشاكلهم وتناقضاتهم, كما يجب أن يكون لفكره نوعا من الوقّادية في استقطاب الأطراف المتناحرة على محور توحيدي جذاب.
وإذا به قد تحول إلى أداة تتعامل مع ابناءه كما يتعامل الند للند والخصم للخصم, الأمر الذي حدا بعفلق من خلال سياسة إقصاءه القيادات الحزبية التي كانت تنظر إليه بقدسية منقطعة النظير, لكي يبقى الحزب حكرا على مجموعة من القيادات التي اعتمدها لإمانة حزبه وليرفعها إلى حد السماء, وذلك هو صدام وزمرته, وهذه نتيجة طبيعية لقائد لا يمتلك الشخصية القيادية ولا يملك منهجا واضح المعالم لفكر استراتيجي لديه شخصيا, فضلا عن أبناء حزبه.
وهنا يناقش الرجل المُحاوِر للقيادي صلاح عمر العلي معلقا على النتيجة التي أرادها عفلق وخرج بها من تلك الإقصاءات الحزبية وهي تفريغ الحزب (الذي لا يمتلك فكرا واضح المعالم كما قلنا) ليكون حكرا على بعض الاشخاص الذين ارتضاهم, فيعلل صلاح عمر العلي له الغاية والنتيجة المطلوبة من منهج عفلق في تطهير حزبه قائلا:
(حتى ينتهي الحزب على بعض الأشخاص المنتفعين في النهاية؟ )
وهنا يؤيد صلاح عمر العلي ذلك بقوله:
(نعم هاي منتهي عندنا بالعراق "يعني هذا الأمر مفروغ منه بالعراق"، انتهى الحزب، لُخِّص في شخص صدام حسين، هذا صحيح أنا الآن بصدد الحديث عن حقائق ما جرى، ليس من باب الدفاع عن شخص إطلاقاً، ولا أحاول إطلاقاً...).
فالحزب قد انتهى على يد عفلق الذي لم يضع له منهاجا فكريا واضحا تمشيء عليه اجياله, ولا هو بالرجل القيادي الكفوء الذي يجمع حوله ابناءه وعياله (يعني حزبه الذي اسسه), وانما قد أنهاه بيده وعلى حضوره.
لماذا ؟
هل انتهت مهمة الحزب المحدودة التي أريد له من تأسيسه؟
هل انهى الحزب اغراضه في تفتيت الأمة الإسلامية تحت شعار العروبة والقومية والتحرر والتحرير والارض والقدس وما إليها من الشعارات السرابية الكثيرة.؟
وهل وصل إلى نهايته في جلب اساطيل العالم إلى منطقة الخليج عبر حربه الخليجية الأولى؟
وهل انتهت مهمته في جعل الكويت قاعدة عسكرية للقوات الأمريكية؟
وهل انتهت مهمته بادخال جيوش العالم المختلفة إلى العراق وتعريضه إلى الاحتلال بعد أن اقدم الحزب القومي العروبي التحرري على تدميره وإبادة شعبه وهتلك اعراض العراقيين وقتل شبابهم واقترافه المجازر الجماعية وما تلتها من المقابر الجماعية الفضيعة ؟ الأمر الذي جدا بالشعب العراقي لئن يسلمه يواجه قدره المحتوم في حربه مع جيوش الأمم التي جلبها بنفسه إلى العراق ولم يترك للعراقيين ذكرا جميلا قط, ولا محبة وانصافا على الاطلاق.
وهل؟ وهل ؟ وهل.....؟
وبعد هذه المقدمة فلا مجال لأحد أن يغالط ويخدع شعبه فيقول هناك فرق بين حزب البعث وبين البعث الصدامي, لأن عفلق المؤسس هو الذي اختصر البعث واختزله في صدام, ولم تكن تلك غلطة اقترفها عفلق بقدر ما كانت النتيجية الطبيعية للمنهج الذي انتهجه عفلق المؤسس للحزب, من حيث يشعر ويدري ويعرف, ويقصد ما يفعل.
وبعد أن انتهينا من الفصل الأول من المغالطة يجب أن نأتي على بيان الفصل الثاني منها في الحلقة التالية.