السلفية الجهادية: أسدٌ عليّ وفي الحروب..!
في مقالته المعنونة بـ «المزيد من شجاعة بن لادن!» المنشورة في الاتحاد الظبيانية يوليو الماضي، والتي قوبلت بسخط المتعاطفين مع جماعات الإرهاب في المنطقة، شخّص الاعلامي تركي الدخيل من وجهة نظره بعضا من ملامح الجُبن لدى أتباع تنظيم القاعدة وعلى رأسهم زعيم التنظيم اسامة بن لادن والذي وصفه بـ «شيخ الكهوف، وإمام المغارات أبي عبد الله الهارب»، وقال الدخيل «الذي لا يعرفه أحد عن بن لادن أن يكون شارك في معارك ميدانية حتى في مرحلة الجهاد الأفغاني في الثمانينات»، وقال عن أتباع بن لادن أشد مما قال فيه هو نفسه «.. لقد رأيناهم يلبسون لبس النساء عند الهرب، ويعتمرون «باروكات» الشعر المستعار، عندما يفرون، ويتعاملون مع الشيطان إذا أرادوا... يستبيحون النساء، لقضاء وطرهم واستنفاد شهواتهم وغوايتهم».والحقيقة، أن ما قدمه الدخيل في مقالته وإن مثّل ملامسة ذكية ونقدا لاذعا، الا أنها لم تتجاوز القشرة الخارجية لمفهوم الشجاعة لدى «السلفية الجهادية» ليس الا، والا فهناك من الأمثلة والشواهد الحية ما هو أعمق بكثير من مجرد المشاهدات العامة والملاحظات العابرة لسلوك اتباع هذه التنظيمات «الجهادية».
لقد تميز الخطاب الاعلامي لهذه التنظيمات، و«القاعدة» هنا مثالا، بشحنة مكثة وحشو متراكم للمصطلح التأريخي الذي أضحى محل سخرية القراء كمصطلح الكفّار والمشركين والمرتدين، أوالغزوات، أوالغنائم، اواقامة حكم الله، والتي لا تعني في حقيقتها سوى مرادافات للآخر غير السلفي، والعمليات الارهابية، والسطو والاختطاف، وأخيرا اعدام هؤلاء المختطفين الذين لا حول لهم ولا قوة.
والى جانب استدعاء المصطلح التاريخي نجد استدعاءات أُخر من نوع مختلف للأسماء والكنى العتيقة هذه المرة، حتى ليظن القارئ لقوائم عناصر «القاعدة» عبر بياناتها كما لو أنه وقع في حيّ من أحياء البادية أيام حرب البسوس! فهاهنا عضو القاعدة الأسير أبو جندل الأزدي وهناك منفذ العملية الانتحارية أبو القعقاع التهامي والآخر أبو حذيفة اليماني... والى آخر أبطال المسلسلات التاريخية وفوازير رمضان.
- ليوث التوحيد!
ولعل من أبرز التوصيفات التي تستخدمها «القاعدة» لعناصرها هو وصفهم بـ «ليوث التوحيد»، فمن يفجر نفسه في عملية فاشلة لتفجير آلية عسكرية أمريكية فيذهب ضحيتها عدد من المارة الأبرياء فهو ليث من الليوث، ومن يعمد لتصفية حلاّق لأسباب طائفية صرفة هو أيضا ليث آخر، ومن يزرع سيارة مفخخة أمام مسجد أو حسينية أو سوق شعبي مزدحم فهو الآخر ليث من ليوث التوحيد. وأخشى أن يكون خلف هذه التوصيفات التفخيمية المكثفة.. محاولة للتغطية على قلق دفين وحالة عدم يقين من صحة المسار لدى الأتباع، فلذلك تأتي أوصاف مثل «الأُسد» او «الليث» طلبا لشجاعة مفقودة، ويأتي «التوحيد» طلبا لحالة اطمئنان متأرجحة حول سلامة المسار.
- ليوث.. أم أشياء أخرى؟
والمتتبع لأدبيات القاعدة في السنوات القليلة الماضية يصطدم بحقيقة مفاجئة للمطبلين لهذا التنظيم وعملياته و«جهاده»، ففي ثلاث مناسبات على الأقل أثبت تنظيم القاعدة ومن خلفه السلفية الجهادية، أنه وعلى الرغم من كثرة عملياته الدموية التي يكاد يحجب لونها القاني صفاء الصورة، الا أنه عندما يجدّ الجد لا تلبث أن تكون «القاعدة» مجرد ظاهرة صوتية، بل تكاد تخترق حاجز الصوت وليس أكثر.
فكلنا يتذكر كيف توعدت «القاعدة» القوات الأمريكية بالويل والثبور وعظائم الأمور بعد سبتمبر 2001 مباشرة ان وطئ لها جندي واحد التراب الأفغاني، لكن عندما دقّ الجنود الأمريكان رقبة طالبان تبخرت القاعدة من ميدان المواجهة الأفغاني بسرعة البرق، وتبخرت معها تهديداتها الرعدية القاصفة.
ورأيناهم أيضا في الفلّوجة وكيف كان التنظيم يتوعد القوات العراقية والأمريكية بهزيمة نكراء ماحقة، وكيف كانت عمامة النبي تحيط بالفلّوجة! فلن يصلها صليبي واحد على حد زعم الشيخ الجنابي، واذا به هو نفسه أول الهاربين من ميدان الفلوجة ومن وراءه «ليوث التوحيد» تتسلل مع النساء والأطفال الى خارج الفلوجة وتتركها هدية للقوات «الصليبية الكافرة».
وحتى أيام قليلة خلت سمعنا كيف وصف الارهابي الأردني الزرقاوي معركة «تلعفر» بـ «المنازلة الحاسمة» وما رافق ذلك من تهديد باستخدام السلاح الكيماوي من قبل عناصر «المقاومة» حتى ظن الكثيرون أن على القوات الأمريكية تجهيز التوابيت لجيشها وأن تحزم أمتعتها مهرولة خارج العراق.. واذا بالعكس يحدث، فهاهم «ليوث التوحيد» يفعلونها مجددا ويهربون من سوح المعركة لا يلوون على شيء.
- أسدٌ عليّ وفي الحروب..!
وفي مقابل هروب عناصر القاعدة من أبرز سوح الحرب المباشرة والمواجهة القتالية الرجولية، والتي نعتقد مع ذلك أنها ولا شك ساحات حرب غير متكافئة ولا تستقيم معها المقارنة بين طرفي النزاع، بين جيوش مدججة بأحدث الأسلحة وفلول تنظيم عسكري مطارد، ولم نكن لنأتي على مقارنة من هذا النوع أصلا لولا أن التنظيم نفسه أعلن عنترياته وتحديه على رؤوس الأشهاد واعدا بمعارك استنزاف طويلة ضد القوات المهاجمة.. أقول في مقابل هذا الهروب الفضائحي المتكرر سجل التنظيم حضورا قويا في ميادين أخرى.. والحق أن «ليوثه» استبسلوا هذه المرة أيما استبسال.. ولكن أين، لنرى؟
لقد أثبت تنظيم القاعدة منذ بروزه كمنظمة ارهابية دموية أنه يعتمد في الأصل على اصطياد الأهداف السهلة جدا، والسهلة نسبيا، للتغطية على فشل التنظيم في المواجهات المباشرة والحاسمة.
ففي مقابل الهروب من ساحة الحرب الأفغانية وتركها للقوات المتحالفة رأيناه يطل برأسه في تفجيرات المجمعات السكنية في الرياض، ورأيناه يزرع القنابل في قطارات مدريد، ومقاهي الدار البيضاء، وهذه لعمري أهداف لا تحتاج في استهدافها في أوقات التراخي الأمني الى أكثر من شحنة متفجرات يقودها معتوه مغسول الدماغ بأحدث مساحيق الغسيل العقائدي وليس أكثر.
وفي مقابل التسلل والهروب من امارة الفلوجة الطالبانية، وما اظهره هذا الهروب من فضيحة للتنظيم والاعلام المطبل، رأيناهم على الجانب الآخر كيف يمارسون بطولاتهم عبر حزّ رؤوس سائقي الشاحنات واطلاق النار على رؤوس العمالة الأجنبية الفقيرة التي جاءت تسترزق في العراق، أو استهداف المساجد والحسينيات ومواكب العزاء بالسيارات الملغومة وقذائف الهاون والانتحاريين المزنرين بأحزمة ناسفة، وكل هذه الأهداف نعلم وتعلمون أنها ليست ثكنات محصنة ولا قواعد عسكرية.. فأين البطولة في استهدافها؟
وما رأيناه مؤخرا في الأيام القليلة الماضية لهو أجلى صور هذا التناقض الفاضح بين ضوضاء الشعارات وحقيقة الممارسة على الأرض، ففي حين هدد الزرقاوي بمنازلة القوات الامريكية والعراقية في تلعفر لم يلبث أن هرول سريعا خارج ساحة تلعفر، واذا به يظهر علينا بسياراته المفخخة مستهدفا الابرياء في ساحة الكاظمية.. أوَهذه هي الشجاعة والمنازلة التي وعد بها قوات التحالف بتلعفر؟
لقد تعلمنا أن أنبل الفرسان لا يحارب عدوه اذا كان هذا العدو أعزلا من السلاح، بل يلقي الى غريمه بما يدافع به عن نفسه اذا كان لابد من مواجهة، ذلك ما يقتضيه شرف الفروسية ونبل الأخلاق حتى بين المتحاربين، فأين «ليوث التوحيد» من هذا؟ سيجيبونك بالتأكيد أن الحرب خدعة، وتجاهلوا أن خدع الحرب شيء، وممارسة الغدر واستهداف الأبرياء من النساء والأطفال والشيوخ والمصلين والمتسوقين وركاب وسائل النقل في الجو والبر شيء آخر.. بل هو عمل السفاحين الذين لا دين لهم ولا خلق يزينهم ولا ضمير يعتمل بين جوانبهم وان تسربلوا بألف سربال من تدين كاذب أو جهاد مزعوم.
جماع القول، ان تنظيم القاعدة ومن خلفه السلفية الجهادية، ليسوا في حقيقة الأمر نموذجا مثاليا لمشروع المواجهة الحضارية والنهوض بالأمة، لا على الصعيد الفكري ولا العسكري، بل على العكس من ذلك تماما فاحصاء عابر لضحايا القاعدة وأخواتها في السلفية الجهادية في العراق والجزائر وأفغانستان ومصر يكشف بوضوح عن وحشية منقطة النظير سقط على اثرها عشرات الألوف من الأبرياء العرب والمسلمين فضلا عن اخواننا في الانسانية، فالقاعدة تستهدف وفق هذا المفهوم خاصرة الأمة الاسلامية قبل غيرها من الأمم. ولم أجد لتوصيف ممارسات القاعدة والزرقاوي ومن خلفهم السلفية الجهادية أكثر تعبيرا ودقة من قول الشاعر؛ أسدٌ عليّ وفي الحروب نعامة، فتخاء تنفر من صفير الصافر