أحلام ومرافئ
هم كثيرون بيننا، نجدهم في كل مكان، على مقاعد الدراسة، زملائنا في العمل، بين جدران منزلنا، قد نلتقي بهم في قاعة انتظار، هم لا يختلفون عنا في شيء، لديهم ملامحنا ذاتها، سوى أن ابتسامتهم لا محل لها على ثغرهم، أعينهم ناعسة، ووجوههم حزينة، وأكتافهم منحنية للأسفل، ساهمون، يفكرون بل يستغرقون في أحلامهم، في أحزانهم، في آمالهم المحطمة.
- لماذا يحدث الاكتئاب؟
عندما ينشأ الإنسان وتبدأ أحلامه تكبر وطموحاته تتعدد، ويعد لها العدة جيداً، ثم يحدث ما لم يكن في الحسبان، حيث ينتزع أحد ما حلمه ويحطم سفن آماله، ويصادر حقه في تحقيق ما أراد، وفي المقابل يكون ذلك الإنسان لديه استعداد للاكتئاب، لأنه لم يضع في خطة أهدافه سارقو الأحلام ومحطمي الإبداع، فيستسلم للحزن الذي يتحول شيئاً فشيئاً إلى اكتئاب، فجميع الأفكار الإيجابية انعكست في صور ٍ سلبية حول الحياة، فيعمم تجربته مع الأشخاص القاسيين ويكّون صورة عامة، فيجعل من كل إنسان حوله سبب محتمل لتحطيم الآمال، فنجده يبتعد عن المجتمع ويختار العزلة، ولا يجد أي حافز لبذل ما لديه من طاقة، وتخبو جذوة حماسه، وإن أبدع جعل إبداعه في صندوق محكم الإغلاق لكيلا يقع في أيدي الآخرين.
- كيف أصبحتَ مبدعاً؟
الملاحظ أن الأشخاص المكتئبين مبدعون، يتقنون أعمالهم، لديهم أفكار لا يأتِ بها غيرهم ربما، ويعود ذلك إلى شدة الاستغراق في الأمر الذي يكرسون له وقتهم وجهدهم، والشخص المكتئب تمر عليه عدة صور خيالية، تكون في غاية الإبداع، فلو كان الشخص المكتئب كاتباً، فسيكون غزير الإنتاج، مبدع أكثر من غيره، يشعر القاريء أنه دخل لأعماقه عندما يقرأ ما كتب، لأن المكتئب أكثر من يغوص في نفسيات الآخرين ويحاذر من أن يسبب لهم آلاماً كما سببها له قساة عصره، ولأنه يكون الأقدر على وصف المعاناة وشرح الألم.
ولكن ليس هذا السبب الوحيد للاكتئاب، والمقالة ليست دراسة نفسية لتعدد جميع أسباب الاكتئاب وإنما هي قراءة لوجوه من حولنا.. إذاً، فالأحلام المحطمة ليست السبب الوحيد للاكتئاب.
- فما هي الأسباب الأخرى؟
الصدمة النفسية أحد الأسباب، حيث يجد الإنسان رفيق العمر خائناً في موقف ما مثلاً.. وأنواع الصدمات عديدة:المشاكل الأسرية أو الزوجية أو المدرسية أحد أسباب حدوث الاكتئاب.. و قد يكون الشخص المكتئب لديه استعداد وراثي لحدوث الاكتئاب.
- هل يوجد عمر محدد لبداية حدوث الاكتئاب؟
لا نجد عمراً معيناً لحدوث الاكتئاب، فهو قد يبدأ من الطفولة كما نلاحظ ذلك في الأطفال المتجهمين، المتذمرين، البكائين لأقل سبب، الذي يصرخون بشدة، المدمرين لما حولهم، أو العكس، نجدهم هادئين هدوءً غريباً، صامتين دوماً، سريعي البكاء دون إفصاح ٍ عن السبب، دون تدمير ٍ للمكان، لا يسعدهم أي مثير يسعد الأطفال الآخرين، مهما حاول الآباء إسعادهم وجلب الهدايا والمفاجآت لهم، أو اصطحابهم في رحلات، لا تتغير وجوهم الحزينة.
- كيف تعرف الشخص المكتئب؟
يتميز الشخص المكتئب بحركة بطيئة جداً، وعند سؤاله عن السبب يتعذر بحب الإتقان، هذا صحيح.. ولكن المكتئب عادة يصاب بخمول، وعدم الرغبة وفقدان الحماس، لذا نجده ينتقل ببطء، بل عندما تكون هناك حالة تستدعي النهوض بسرعة، تكون استجابته بطيئة.
لديه شعور أنه أكثر من يعاني في هذه الحياة، وإذا تحدثتَ معه بصدق سيذكر لك أدق تفاصيل الحزن، لاختزان ذاكرته بالصور السلبية.
انسحابه من المجتمع سبب لحدوث مشاكل كثيرة، ولكنه يجد انه يرتاح أكثر، لابتعاده عن أسباب المشكلة التي سببت له الاكتئاب أو تفادياً لحدوث مشكلة جديدة، أو لشعوره بعدم الكفاءة الاجتماعية.
يحفظ جيداً ساعات الألم وعدد أيام البكاء ولا يذكر إطلاقاً متى آخر مرة ضحك فيها، وإذا تذكر فستكون مرة واحدة في شهر بعيد، هكذا ستكون إجابته، وبالعكس.. قد يستغرق الشخص المكتئب في الضحك طويلاً ولا تبدو عليه علائم الاكتئاب، لأنه يحاول التعويض عن ساعات البكاء وحيداً.
الشخص المكتئب ليس ضعيف الإيمان، قليل الصبر وجاحد لنعمة ربه، إنه فقط لا يستطيع تخفيف الألم لعدم وجود من يسمع لألمه الشديد كما ينبغي، فالآخرون يعتبرون بكاءه مبالغة، و أسبابه لا تستدعي الحزن، بينما رؤية كل منا للأمور مختلفة، لذا ينبغي الاستماع وتخفيف حزن هذا الشخص.
المكتئب أكثر عرضة لاستغلال الآخرين، وانصياعاً للأوامر، لرغبته بتجنب المشاكل، ولكن ما هكذا تعلمنا الشريعة الإسلامية، حيث لا يفترض بنا استغلال الآخرين أو السخرية منهم والتسبب في إحزانهم.
- نظرة ضيقة في مجتمع يدعي الحضارة!
المكتئب قد لا يجد يداً تمسح جروحه فيبقى في وحدته، ولكن هناك من ينتبه لعدم قدرته على مواجهة عاصفة الاكتئاب فيتجه للمستشفى للعلاج، وإذا ما عرف أحد ما اتهمه بالجنون، هذه النظرة القاصرة لا تزال موجودة في المجتمع، حيث يظن بعض أفراده أن العلاج النفسي يعني أن الشخص مجنون - على الرغم من ازدياد الوعي- بل قد يرفض الواعون أن يتعالجوا نفسياً، أو أن يتعالج أحد أفراد الأسرة للسبب ذاته، لماذا نسبب ألماً آخر لهذا الشخص المكتئب ونضيف عليه عبئاً آخر؟ وهو عبء الإجابة عن سبب ذهابه للعلاج النفسي، ونظرةٌ مصوبة نحوه بمجرد دخوله لمكان ما، وضحكٌ خافت، وإشارةٌ من أحدهم بغباء واضح، وهمسٌ في إذن من يجاوره: «إنه يتعالج نفسياً».
- قد تكون أنت أحدهم!
البشر معرضون للضغط النفسي، والكل يمر بحالة ضيق، وشعور ٍ بالحزن العميق لسبب ٍ ما، وقد لا يشعر الإنسان أنه يمر بحالة اكتئاب لأنه يكون بسيطاً، وقد يجد من يستمع له، فيمر في مرحلة الاكتئاب ثم يزول بزوال أسبابه، ونجد هذا في شكوى البعض عن شعورهم بانقباض في القلب وتصورات سلبية لما يجري حولهم، والتبريرات الكثيرة لأخطائهم، والوجه الحزين، وفقدان الحماسة في العمل أو الدراسة لبضعة أسابيع، ثم الانطلاقة من جديد بعد إجازة يرتاح فيها أو أي سبب لزوال الاكتئاب، إذاً فكل فرد منا معرض بنسب مختلفة للاكتئاب، فلماذا هذه النظرة الضيقة للعلاج النفسي؟ وهذا التهجم على من يعاني من المرض النفسي؟ لماذا السخرية؟.
أسئلة كثيرة تـُطرح حينما نتحدث عن هذا الوحش المسمى بالاكتئاب، حيث يأكل الإنسان أكلاً، ويُبقى على الفتات منه، هو وحش لأنه ينهش الفكر، ويحطم القلب، ويكسر كل مجاديف الأمل، هو وحش لأنه يسبب للشخص آلاماً أخرى تتمثل في الأمراض النفسجسمية، هو وحش لأن من يصاب به لا يُرحم من المجتمع، ولأنه سبب للعزوف عن خدمة أبنائه، هو وحش لأنه يعني أن تبكي وحيداً، ترافقك وسادة مليئة بالدموع، تجد نفسك منخرطاً في البكاء دون أن تجد اليد الحانية التي تقدم لكَ منديلاً، لا تنسَ أن الله معك.