المعدان قادمون (1_2)
المعدان جمع (معيدي). والمعيدي غير المُعيدي وهذا الاخير طائر جميل الصوت قبيح الصورة ومن هنا جاء في امثال العرب قولهم (أسمع بالمعُيدي خير ٌ من ان تراه) اما المعيدي فلم اقف على تفسيرٍ دقيقٍ علىاصل هذه المفردة . من اين وكيف أتت؟ واكثر ما قام به الباحثون هو اعطاء وصف للمعيدي دون التطرق الى مصدر الكلمة وكيف استعملت وهذا ما فعله عالم الاجتماع العراقي علي الوردي في كتابه الموسوم بـ (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي) حيث وصف (المعدان) بأنهم طبقة من المجتمع العراقي تسكن اهوار العراق منذ العصور الغابرة وتعيش على تربية الجواميس او ما نسميه بالعراقي (الدواب) وهي كلمة عربية فصحى جاء ذكرها بالقرآن الكريم بقوله تعالى (ان شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لايعقلون). وكذلك يعيشون على صيد الاسماك والطيور حيث تزخر بيئة الاهوار بالكثير منها وقد تناول طباعهم وتقاليدهم بشئ من التفصيل الباحث الانكليزي السير ويلفر ثيسكر في كتابه (المعدان) الذي ترجم للعربية أخيرا.
غير ان هناك بعض المحاولات التي اريد منها معرفة جذر مفردة (المعيدي) وهي محاولات غير اكاديمية. فهناك من يرى انها مأخوذة من المعدن وهي أشارة الى اصالة وعراقية هذه الشريحة الطيبة ووجه الشبه بينهم وبين المعدن هوالقدم والاصالة والعراقة فالمعادن توجد في باطن الارض منذ آلاف السنيين وهم _أي المعدان_ سكنوا العراق منذ غابر العصور. وهناك من الانثروبولوجيين من يعتقد انهم من بقايا السومريين ويستدل على ذلك بأن منطقة الاهوار كانت موطن السومريين حيث مدن أكد وأور وكذلك من وجود بعض الادوات والعُدد السومرية التي لاتزال مستخدمة عند المعدان مثل (الفالة) و(المشحوف) وهو وسيلة التنقل الوحيدة لديهم عبر المياه والادغال لكن المتفق عليه انهم من اصول سامية وهناك من يؤكد على انهم يتحدرون من ارومة عربية.
واما الرأي الثاني فيرى ان (المعيدي) مأخوذة من المعاداة اي المناكفة والرفض ويرى اصحاب هذا الرأي ان قوات الاحتلال الانكليزي شجعت على استخدام هذه المفردة بقصد تحقير سكان الاهوار الذين قاتلوا الانكليز عند دخولهم العراق مطلع القرن المنصرم وأبلوا في قتالهم بلاءاً حسنا فتحولت عملية احتقار العراقيين الاصلاء الى عرف سياسي غير معلن وتقليد اجتماعي ظاهر للعيان وسنة الانظمة التي تعاقبت على حكم العراق .
والرأي عندي ان مفردة (المعدان) هي مزيج للرأيين السابقيين فهم بحق اهل العراق وسكانه الاصلاء وهم ايضا أبات الضيم يرفضون الذل ويكرهون الهوان ولايطيب لهم مضجع مع محتل لأرضهم او غاز, فهم يعادون كل من يريد ارضاخهم واستعمارهم. ولكن كلا الرأيين تنقصه الادلة العلمية رغم توفر الشواهد الحسية .
وخلاصة القول فيهم انهم عراقيون حقا والاخرون اما مستعرقون او ابناء جاليات وهنا تبدأ قصة العراق الحديث حيث ثلاثية الصراع. وقبل الخوض في بيان حقيقة هذا الصراع لابد لنا من التوقف عند مصطلحي المستعرقون وابناء الجاليات. فنقول ان الامة العراقية الحالية هي حصيلة لتلاقي وتمازج امم عدة واعراق متنوعة واصول مختلفة واقوام شتى ولكن يمكننا القول انها _اي الامة العراقية_ تتألف من ثلاث اصناف من البشر:
الاول هم العراقيون سكان العراق الاصليين وهؤلاء خليط من الكلدان والاشوريين والعرب والكرد والتركمان . استوطنوا العراق منذ سالف الازمان. فالكرد يرقى وجودهم الى زمن الدولة الميدية وعاصمتها اربل والاشوريين الى عهد الامبراطورية الاشورية وعاصمتها نينوى والعرب الى عصر دولة المناذرة وملكها النعمان بن ماء السماء وعاصمتها الحيرة وربما اكثر من ذلك والتركمان منذ الفتوحات الاسلامية الاولى.
ومن العراقيين ايضا النبط وهم قوم ابراهيم ابو الانبياء عليه السلام ومن بقايا هؤلاء الهاشميون حيث يقول علي بن ابي طالب عليه السلام وهو اول هاشمي يولد لام وأب هاشميين يقول عن اصل الهاشميين (نحن نبط أستعربنا) ومعروف ان ابراهيم عليه السلام كان يعيش في جنوب العراق ومن هناك انطلقت رسالته الحنفية.
اما المستعرقون فهم بقايا الترك والديلم والمغول والانكشارييين والكولومنديين والصفويين والبويهيين والسلاجقة والترك العثمانيين وبقية الاقوام التي مرت على العراق او احتلته ثم مكثوا فيه واستعربوا ثم استعرقوا. واما ابناء الجاليات فجلهم من الايرانيين و الباكستانيين والهنود والافغان الذين قدموا العراق في نهاية الدولة العثمانية او قبلها بقليل. وما يجمع بين هؤلاء والمستعرقيين انهم جميعا وافدون اي انهم مهاجرون اما جاءوا لأحتلال العراق ثم استقروا فيه او جاءوا طلبا للرزق او الدراسة او للعيش قرب العتبات المقدسة اي انهم ليسوا من سكان العراق الاصليين.
وما يجمع بينهم ايضا هو انتسابهم الى المدن او الحرف كالباججي والجادرجي والدملوجي والقبنجي او كالبياع والصراف والعطار والكاتب والدباغ والصائغ والحكيم على عكس العراقيين الذين ينتسبون في العادة الى العشيرة او البيوتات كالبرزاني والطالباني والميزوري والزيباري والقرداغي والبياتي والساعدي والكعبي والشمري والزاملي والاعرجي والموسوي وهكذا من بقية العشائر والاسر العراقية المعروفة.
غير ان الفرق بين المستعرقين وابناء الجاليات هو في الاستعراب. اذ المستعرقين تركوا لغاتهم وتقاليدهم وعاداتهم واستبدلوها باللغة والتقاليد والاعراف العربية كليا على عكس ابناء الجاليات الذين ظلوا يستخدمون لغاتهم الى جنب اللغة العربية ويتمسكون بعاداتهم ولعل السبب في ذلك يعود الى قرب قدومهم واستقرارهم في العراق مقارنة بالمستعرقين الذين مضى على وجودهم في العراق عدة قرون.
هذا هو باختصار حال الامة العراقية والتي تبدو للناظر كحديقة متنوعة الازهار تسر الناظرين يفوح من كل زهرة عطر خلاب ويقدح منها لون جذاب اوكفسيفساء جميلة يكمل بعضها البعض. لكن مع ذلك فالصورة العراقية لاتبدو مثالية حيث الصراع الغير معلن بين هذه المكونات يعكر صفو العلاقات وضحية هذا الصراع هم (المعدان) الذين شاءت الاقدار ان يعيشوا مسلوبي الارادة منتقصي الكرامة ومهضومي الحقوق من قبل الاخرين لا سيما من المستعرقين وابناء الجاليات فماهي ملامح هذا الصراع؟ وماذا يُهدف من ورائه؟ وكيف يستطيع المعدان التخلص من هذا الواقع المرير؟ انتظروا الاجابة اذ للحديث تتمة.