سيهات: الشيخ الرواغة «الزهراء.. قدوة العلم والفضيلة»

القى سماحة الشيخ صادق أحمد الرواغة «حفظه الله» يوم الجمعة بتاريخ 10 جمادى الأولى 1426هـ الموافق 17 يونيو 2005م في مسجد العباس بمدينة سيهات كلمة بعنوان «الزهراء.. قدوة العلم والفضيلة»..
فيما يلي نصها:
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ للهِ رَبِّ العَالمينَ والصَّلاةُ والسَّلامُ على َأشرفِ الخَلقِ أجمعينَ مُحمدٍ وآلهِ الطَّاهرينَ.
قال تعالى:﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ • فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ• إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾[1]
الكوثر –في اللغة- من الكثرة وهو الشيء الذي من شأنه الكثرة، والكوثر الخير الكثير.. والأبتر: أصله من الحمار الأبتر وهو مقطوع الذنب.. [2] ، ويُطلقُ الأبتر على من لا ابن له.
وقد اختلف المفسرون في معنى الكوثر على أقوال منها: الخير الكثير، وقيل: نهر في الجنة، وقيل: حوض النبي في الجنة أو في المحشر، وقيل: أولاده، وقيل: أصحابه وأشياعه
إلى يوم القيامة، وقيل علماء أمته
، وقيل: القرآن وفضائله كثيرة، وقيل: النبوة، وقيل: تيسير القرآن وتخفيف الشرائع، وقيل: الإسلام، وقيل: التوحيد، وقيل: العلم والحكمة، وقيل: فضائله
، وقيل: المقام المحمود، وقيل: نور قلبه
، إلى غير ذلك مما قيل، وقد نقل عن بعضهم أنه أنهى الأقوال إلى ستة وعشرين[3] .
الزهراء هي الكوثر
ولا يمكن نفي كل تلك المعاني التي وردت في معنى الكوثر، ولكن أن تكون تلك المعاني هي المقصودة أولاً وبالذات، وأن يكون أحد معانيها الزهراء ثانياً وبالعرض، فهذا مما يخالف سياق آيات السورة وسبب نزولها.
فإن سبب نزول السورة في العاص بن وائل السهمي، وذلك أنه رأى رسول الله يخرج من المسجد فالتقيا عند باب بني سهم وتحدثا وأناس من صناديد قريش جلوس في المسجد، فلما دخل العاص قالوا: من الذي كنت تتحدث معه؟ قال: ذلك الأبتر وكان قد توفي قبل ذلك عبدالله بن رسول الله
وهو من خديجة، وكانوا يسمون من ليس له ابن أبترا.. [4]
وعلى هذا؛ يكون المقصود بالكوثر هي الزهراء ، التي منها انحدر نسل رسول الله
، وانتشر في الآفاق.
ويذكر الفخر الرازي في تفسيره، بعد بيان معاني الكوثر:«القول الثالث: الكوثر أولاده، قالوا لأن هذه السورة إنما نزلت رداً على من عابه عليه السلام بعدم الأولاد، فالمعنى أنه يعطيه نسلاً يبقون على مر الزمان، فانظر كم قُتل من أهل البيت، ثم العالَم ممتلئ منهم، ولم يبقَ من بني أمية في الدنيا أحد يعبأ به، ثم انظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا ، والنفس الزكية وأمثالهم.. ». [5]
المرأة بين الجهل والتجهيل
تشكل المرأة نصف المجتمع، وهذا النصف ليس كمالياً أو يعيش على هامش المجتمع، بل له تأثيره سلبا أو إيجابا، ويحدد الخطوط العامة لنهج أبنائه.
فلا يمكن تغافل هذا النصف الذي جعله الله تعالى في درجة واحدة من حيث الخلقة والحقوق والواجبات، فكما أن عليها واجبات يجب أن تلتزم بها، كذلك لها حقوق لابد أن توفى لها كاملة، ولا يجوز بخسها وظلمها.
ولكن المرأة في أغلب المجتمعات تعيش حالة العزلة الفكرية والثقافية والاجتماعية التي ضُربت عليها أو فرضتها هي على نفسها.
إن بعض النساء في مجتمعاتنا يعشْنَ بين كمّاشتين: كمّاشة الجهل بقيمتهن الحقيقية، وقدراتهن التي يستطعن استثمارها في صالح أسرهن ومجتمعاتهن، وكمّاشة شريحة واسعة من المجتمع التي تهمشهن وتتجاهلهن.
فأغلب نساء مجتمعاتنا يجهلن بأنفسهن وبأدوارهن التي عليهن ممارستها، فتحصر نفسها في زاوية الأعمال المنزلية، كالطبخ والغسيل وتنظيف البيت، والتزين والتجمل، فتصب جل همها في البحث عن آخر الموديلات والصرعات، متناسية بذلك دورها الأساس وهو إعداد أجيال المستقبل.
إن تجمّل وتزيّن المرأة لبعلها وإظهار نفسها بمنظر جمالي هو مما يدعو إليه الإسلام، ولا ينكره، فلها أن تهتم بأمور الزينة، كما لا يصح لها أن تتناسى أو تتجاهل مهامها ومسؤولياتها كمربية وموجهة ومشاركة في عملية الحراك الاجتماعي، وأنها جزء منه، لا يتكامل إلا من خلال مشاركتها وفاعليتها.
إن الظلم الواقع على المرأة، سواء أكان ذلك على صعيد الأسرة على تنوع أدوارها، أم كان على الصعيد الاجتماعي، هو نتاج تخلف قد ضرب أوتاده في عمق فكرنا وثقافتنا، حيث يُنظر إليها بالدونية والتصغير والتحقير لأي عمل تؤديه أو تريد القيام به، وذلك لعدم قناعة مثل هؤلاء بما يمكن للمرأة أن تقدمه للمجتمعات.
إن مقولة «وراء كل رجل عظيم امرأة» قد تكون صائبة، كما أن المعنى ينعكس أيضا.
إن التاريخ يحدثنا عن نسيبة أم عمارة وكيف أبلت بلاءً حسنا في معركة أحد، حين فرّ الكثير من رجالات الجيش الإسلامي، بعدما خالفت الفرقة الموكلة بالمرابطة على جبل أحد، واغتنم خالد بن الوليد وجود هذه الثغرة، فسيطر على الجبل وأشرف على الوادي، وهجمت قريش على المسلمين.
هذه المرأة قد خلّدها التاريخ بموقفها المشرّف دفاعا عن الرسول .
الزهراء القدوة
فعلى المرأة أن تقرأ جيدا حياة الزهراء ، كي تعرف الزهراء
، وتقف على الأدوار المهمة والخطيرة التي لعبتها، وتلك التضحيات التي قدمتها من أجل رسالة الإسلام.
وكذلك علينا نحن أن نقرأ حياة النبي ، وتعامله معها، وكيف كان علي
يتعامل مع الزوجة المرضية الزهراء الكريمة
.
علم الزهراء
:
حياة المرء بفكره وعلمه وثقافته، وبمقدار تفاعله مع تلك المعارف والثقافة، وليست الحياة بمقدار ما يمتلك من مال أو وجاهة، فإن المال مصيره إلى الزوال، فكما أصبح غنيا، يتحول إلى فقير، فدوام الحال من المحال، ولا يبقى ذكر إلا لصاحب العلم والعمل النافع.
يقول الإمام علي :«معرفة العلم دين يُدانُ به، به يكتسب الإنسان الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته[6] ».
وعن كميل بن زياد قال: أخذ بيدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
، فأخرجني إلى الجبان (المقبرة) فلما أصحر، تنفس الصعداء. ثم قال: يا كميل:«العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والمال تُنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق، وصنيع المال يزول بزواله[7] ».
لذلك اهتمت الزهراء بتدوين الحديث والمعارف الإلهية وكل ما تسمعه من أبيها رسول الله
، ومن بعلها أمير المؤمنين
، وكانت تدأب على تسطير أي شيء يخرج من فم أبيها وبعلها، فهي ربيبة العلم والتقوى.
وما مصحف فاطمة ، إلا كتاب قد جمعت فيه ما سمعته من أبيها
، وزوجها
، في التشريع والأخلاق والآداب والمعرفة، وليس قرآنا كما يظن بعض الجهلة ذلك.
أخلاق الزهراء
لقد كانت أخلاق الزهراء كأبيها، طيبة وعطفا ورحمة مع الجميع بلا استثناء، سواء في بيتها أم خارجه، مع أهلها وذويها أم البعيدين عنها، فها هو الإمام الحسن العسكري
، يروي لنا كيف أنها لا تتضجر من إلحاح الناس عليها وكثرة الأسئلة التي يطرحونها بقوله:«حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء
فقال: إن لي والدة ضعيفة وقد لبس عليها في أمر صلاتها شيء، وقد بعثتني إليك أسألك، فأجابتها فاطمة
عن ذلك فثنّت فأجابت، ثم ثلّث إلى أن عشّرت، فأجابت، ثم خجلت من الكثرة فقالت: لا أشق عليك يا ابنة رسول الله، قالت فاطمة: هاتي وسلي عمّا بدا لك، أرأيت من اكتري يوما يصعد إلى سطح بحمل ثقيل وكراه مائة ألف دينار، يثقل عليه؟ فقالت: لا، فقالت: اكتريت أنا لكل مسألة ثقل ملء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤاً، فأحرى أن لا يثقل عليّ[8] ..».
هكذا كانت أخلاق الزهراء .
الزهراء مع أبيها
لقد عاشت الزهراء المحن التي عاشها أبوها
، وتجرعت الغصص والآلام وهي ترى قريشا لا يألون جهدا في التضييق وإيذاء الرسول
، كما قاست أيام الحصار الذي ضرب على أبيها
والمسلمين.. قد عاشت شطرا من أيام رضاعتها حتى فطمت، ودرجت تمشي على رمضاء الشعب، وتعلّمت النطق وهي تسمع أنين الجياع وصراخ الأطفال المحرومين، وبدأت تأكل في زمن الحرمان والفاقة، وإذا ما استيقظت في هدأة الليل وجدت الحراس يدورون –بحذر وترقب- حول أبيها يخافون عليه من غدر الأعداء في حلكة الليل، ثلاث سنين تقريبا والزهراء
في هذا السجن لا يربطها بالعالم الخارجي أي شيء حتى أدركت الخامسة[9] .
لقد رأت رسول الله يعود يوما وعلى رأسه ووجهه تراب، فما أن تراه الزهراء
حتى تقوم إليه باكية متألمة، فيقول لها مخففا عنها آلامها:«لا تبكي يا بنية فإن الله مانع أباك، وناصره على أعداء دينه ورسالته» وهاجرت إلى المدينة، وعاشت مع أبيها مخففة عنه آلامه، ترعاه كما ترعى الأم وليدها، فكانت لأبيها كالأم الرحيمة، حتى قال فيها رسول الله
:«فاطمة أم أبيها».
الزهراء مع زوجها
انتقلت الزهراء إلى بيت زوجها، في طقوس زواجٍ متواضعٍ ليس فيه أي مظهر من مظاهر الترف والزهو، وتلك الظروف على بساطتها إلا أنها سامية كريمة، لأنها لم تقم على المال أو التبجح أمام الناس إما بزوجٍ غني -وإن لم يكن متديناً-، أو بمظاهر براقة زائفة سرعان من تذهب وتضمحل وتتلاشى، وإنما كان ذلك الزواج قائما على الإيمان والتقوى.
وبعد إن دخلت على زوجها، جاء إليها رسول الله صبيحة تلك الليلة، وبعدها بثلاث ليالٍ يسألهما عن بعضهما وكيف كل واحد وجد صاحبه قائلا:«كيف وجدت أهلك؟ قال
: نِعم العون على طاعة الله. وسأل فاطمة فقالت: خير بعل[10] » ولم تشتكِ الزهراء
زوجها يوما إلى رسول الله
، ولم تتذمر من الحياة والعيش في بيت قد ينام أهله أياما بلا أكل أو زاد، لقد كانت صابرة محتسبة، لم تكلف زوجها ما لا يطيق.
ومع هذه الحالة التي كانوا يعيشونها، فقد كانت تخرج ليلا مع أمير المؤمنين لزيارة الفقراء ومساعدتهم. يقول الإمام الصادق
:«كان أمير المؤمنين
يحتطب ويستقي ويكنس، وكانت فاطمة
تطحن و تعجن وتخبز»
الزهراء مع أبنائها
إن وظيفة الأمومة من الوظائف الحساسة والمهام الشاقة التي تحتاج لفهم وإدراك، فليست الأمومة مجرد وضع المرأة حملا كان في بطنها، ثم تقوم بإرضاعه وإطعامه وتنظيفه والعناية به، بل إن الأمومة أكبر وأسمى من ذلك، الأمومة تعني الاهتمام بالجانب التربوي التأديبي، وغرس كل فضيلة في نفوس الأبناء، وتأديبهم على الأخلاق الفاضلة، وحثهم نحو العلم والمعرفة، وتهيئتهم لمستقبل حياتهم، وأن تراعي وتسأل عمّا يشغل أبنائها خصوصا الفتيات اللاتي لا يجدن من يستمع لهنّ، فعلى الأم أن تكون هي الصدر الحنون لأولادها وبيتها، ولا يتحول قلبها إلى قطعة صخر لا إحساس ولا مشاعر فيه.
فهذه الزهراء وهي الأم التي أدركت مسؤولياتها وتحملتها وأدت دورها على أتمّ وجه، هيأت أولادها وربتهم أيما تربية، فقد خرّجت الزهراء
العقيلة زينب
كي تتحمل دورها المستقبلي في مقارعة الظلمة، فأفرغت عن منطق أمير المؤمنين
ومنطق أمها
، عندما كانت في مجلس عبيد الله بن زياد وبعد ذلك في مجلس يزيد بن معاوية.
ولم يسجل لنا التاريخ يوما أنّ الزهراء قبّحة وجه أحد من أبنائها، أو وصفته بعبارات غير لائقة أو مخلّة أو بذيئة، أو فضّلت أحد أبنائها على غيره، أو أشعرته بشيء من التحقير، أو بشيء يقلل من شأنه، بل كانت تستمع إليهم وتحل لهم مشاكلهم، وتتحسس مشاغلهم، وترهف لهم سمعها، وتفتح لهم صدرها.. فهذه هي الزهراء
القدوة.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، والحمد لله رب العالمين والصلاة على محمد وآله الطاهرين.