الحداثة والصراع القديم الجديد

لا يخفى على المتابع للحركة الثقافية الشعرية العربية ذلك الصراع الذي نشب بين تيارين حول المرأة الفاتنة التي تسمى (الحداثة) ولعل توصيفنا إياها بالفاتنة مشتق من الفتنة التي سببتها فبينَ من سقط في شراكها وبين من استعاذ بالله منها، ولعل الثقافة العربية في الأعم الغالب قد تجاوزت هذا الصراع فأنت إذا نظرت إلى الإنتاج الشعري سواءً المطبوع منه أو المنشور على الشبكة العنكبوية لا تجد إلا نصوصاً تغلب عليها سمة الحداثة وقلما أنت تجد شعراً كلاسيكياً مطبوخاً بمواصفات أجدادنا العرب ومقاديرهم الفنية، وأيضاً أنت لا تجد أثر هذا الصراع في المجلات التي تكتب فيها النخب المثقفة للعالم العربي.

أما في منطقتنا (القطيف) فما زالَ الصراع قائماً على ساقيه الاثنتين وليس على ساق واحدة، فما زال هناك تيار ليس ضد الحداثة فقط بل وضد التجديد في الشكل الشعري، فالشعر الحر ما زال لديهم ليس شعراً ولا أحتاج للتنويه بعدها على رأيهم بما يسمى (قصيدة النثر).

وليس هدفي في هذا المقال الدخول في تعريف للحداثة التي لا يتفق الحداثيون على تعريف لها فهي من المصطلحات الشائكة وهذا ليس عيباً في الحداثة بل هو كناية عن سعة هذا المصطلح وشموله لتموجات معرفية كثيرة وحاله كحال مصطلحات أخرى كمصطلح الثقافة أو العولمة أو غيرها، على أني أرى خلطاً كثيراً في أذهان الشعراء الكلاسيكين حول الحداثة بل وحتى بعض الذين ينتسبون للحداثة، فالبعض ينسب التجديد في الشكل الشعري إلى الحداثة الشعرية وهذا التجديد لا دخل له في الحداثة الشعرية وإن كان يصح أن يُطلق عليه حداثة بالمفهوم العام، ويقول أدوني س:«فمن المفارقة الشعرية أن تكون القصيدة جديدة بشكلها قديمة بمضمونها أو العكس، غير أن هذه الهوة قائمة واقعياً في معظم النصوص التي تسمى حداثة سواءً منها المكتوب نثرياً خارج نظام التفعيلة والمكتوب بأنساق تفعيلية خارج نظام البيت وشطريه» [1] ، وبعضهم يربط بين الغموض والحداثة وهذا خطأ شائع أيضاً إذ أن كثير من النقاد الحداثيين ومنهم أدونيس (لو صنفناه على أنه ناقد) يرون أن في شعر امرئ القيس وأبي نواس وأبي تمام حداثة شعرية، بل إن الشاعر محمود درويش يرى أن المتنبي هو أحد مؤسسي الحداثة في الشعر العربي، ولا أحد يزعم منا أن شعر هؤلاء هو شعر غامض وغير قابل للفهم، والعكس صحيح أيضاً فكثير من الشعر الذي لا يفهمه إلا المتمرسين في قراءة الشعر الحداثي ليس حداثياً بل إنه يحمل رؤية نمطية ومعالجة تقليدية للأشياء.

كل ما أريده هنا أن أبين أن التيار الرافض للحداثة الآن هو تيار مشابه للتيار الذي تكون بعد ثورة شعر أبي تمام على طريقة الأوائل وعلى نظرية عمود الشعر التي قعَّدها الآمدي في موازنته والمرزوقي في مقدمته لحماسة أبي تمام وغيرهم من النقاد القدامى الذين كانوا يتصورون أن شعر الأوائل كان ممثلاً لهذه النظرية ومحققاً لشروطها وأن أبا تمام وقبله مسلم ابن الوليد والشعراء الذين لقبوا بـ(المحدثين) أو (المولدين) كانوا خارجين على تراث آبائهم وعلى طريقتهم المثلى، ولاحظ أن توصيفهم بالمحدثين يشير إلى ما أحدثوه في الشعر مما لم يكن موجوداً، وذلك ما أبطله فيما بعد الناقد الشهير عبد القاهر الجرجاني في كتابه أسرار البلاغة، ولا أريد هنا أن أبسط الحديث عن تلك المعركة بقدر ما أريد أن أبين أوجه التشابه بينها وبين ما يحدث الآن، لنخلص بعد ذلك إلى أسئلة لعلها تزيد وعينا وتبصرنا بموقفنا مما يسمى (الحداثة)، ولعل من مميزات هذه الحداثة أن فكرها يقودنا لفتنة الأسئلة التي هي فتنة الشعر كما يقول أدونيس، بعكس الفكر التقليدي الذي يقودنا للأجوبة المرادفة لليقين والمعرفة، فالأجوبة لا تقودنا لليقين / المعرفة بل للشك/الجهل!، وذلك لغزٌ ليس هنا مكانُ حله، فهو من لعنات الحداثة الكبرى، في تبادل مثير للأدوار في الثقافة الفكرية بين السؤال والجواب من المتن للهامش ومن الهامش للمتن على ضوء اللعبة التي يحبها كثيراً الناقد والدكتور عبدالله الغذامي!.

نأتي الآن إلى استعراض ثلاث من القضايا المهمة التي أثيرت في تراثنا والتي هي الآن مثار جدل في وسطنا الشعري، ولنرى ما الفرق بين مواقفنا ومواقف أجدادنا بين تفكيرنا وتفكيرهم بين رؤيتنا ورؤيتهم.

   أولاً: قضية الإبداع والاتِّباع:

قال الفرزدق: «كان الشعرُ جملاً بازلاً عظيماً فنُحر فجاء امرؤ القيس فأخذ رأسه، وعمرو بن كلثوم سنامه، وزهير كاهله، والأعشى والنابغة فخذيه، وطرفة ولبيد كركرته، ولم يبقَ إلا الذراع والبطن فتوزعناهما بيننا»[2] !!

لا يخفى على أن الفكر العربي فكر قائم على تقديس الماضي وشخصياته، ولقد نشأنا في بيئة شعرية وتعلمنا مناهج دراسية ترى أن التراث الشعري الذي تركه لنا أجدادنا هو النموذج الأسمى الذي يجب علينا اتباعه وأنه من غير الممكن أن يكون هناك من هو أفضل من أبي تمام أو من البحتري أو من امرئ القيس والذين لاشك أنهم أنتجوا شعراً جميلاً ورائعاً، وتلك البيئة كانت تزرع في لا وعينا أن شعرنا كلما اقترب من طريقتهم واحتذى أساليبهم كان أفضل، ولعل هذا قد تسرب لنا من الفكر الديني الذي يقدس المعصومين عليهم السلام وأتباعهم ويرى أنه لا يمكن لأحد الوصول لمقاماتهم أو أن يفعل كأفعالهم أو يقول كأقوالهم وأن علينا الإقتداء بهم وذلك لا جدال فيه، غير أن الشعر أمره مختلف وذلك ما لم نفطن له، وهذا النوع من التفكير والنظرة للشعر ليست وليدة الحاضر بل هي موجودة في التراث كما يتضح من قول الفرزدق الذي يرى بأن الأول لم يُبقِ للآخر شيئا من الشعر، وكما أن البحتري في نظر الآمدي أفضل من أبي تمام لأنه «أقوم بعمود الشعر» [3]  وهو على مذهب الأوائل بينما أبو تمام لم يكن على مذهبهم، ويقول المرزوقي بعد أن شرح مواصفات عمود الشعر:«فهذه الخصال عمود الشعر عند العرب، فمن لزمها بحقها فهو عندهم المفلق المعظم، والمحسن المقدَّم، ومن لم يجمعها كلها فبقدر سُهمته منها يكون نصيبه من التقدم والإحسان»[4] ، ويقول أحد الباحثين «إن معيار الصراع بين الفريقين «أي الفريق الذي يؤيد أبا تمام والفريق الذي يعارضه»، إذاً، هو طريقة الأوائل، أو ما يسمّى بعمود الشعر. ومدى اقتراب الشاعر من هذه الطريقة أو ابتعاده عنها، هو مقياس الحكم عليه بالتقديم أوالتأخير. والمفارقة الطريفة في هذا المجال، هي أن ما يُعدّ سبباً في تقدم الشاعر عند طرف، هو نفسه سببُ تأخيره عند الطرف الآخر، والعكس صحيح»[5] .

هذا التيار الفكري كما أن الحداثيين يعارضونه الآن لوجود من يمثله في ساحتنا الثقافية فإن التراث أيضاً كان يحتوي على مناهضين لهذا التيار، ومنهم الجاحظ الذي يقول: «إذا سمعت الرجل يقول ما ترك الأول للآخر شيئاً فاعلم أنه لن يفلح»، ويقول أبو تمام أيضاً واصفاً إحدى قصائده:«يقول من تَقرَعُ أسماعَهُ – كم تركَ الأولُ للآخر ِ»، ويقول أحد اللغويين:«الشعر كالسراء والشجاعة والجمال، لا يُنتهى منهُ إلى غاية»[6] .

فالحداثة تركز على الإبداع بشتى مستوياته والخروج عن الجادة التي مشى عليها آباءنا لا لمجرد الخروج ولكن لإضافة شيء ما للتجربة الشعرية والانسانية أي أنه خروج إيجابي لا خروج سلبي هدفه الانقطاع عن التراث وبت الصلة به كما يعتقد البعض، بل هي اتصال بالتراث والاستفادة من تجربته والبناء عليها وتوظيفها، فالحداثة لا تعيش حالة صراع بينها وبين التراث وتهدف لإزالته من الساحة بل إنها امتداد له تعيش حالة تكاملية معه، فكل شاعر يضيف بتجربته الإبداعية للشعر كما أضاف الأولون وبهذا فالشعر يعيش حالة نمو وليس حالة نقص وتآكل كالجمل البازل وفق رؤية الفرزدق له أعلاه التي ترى أن الحضارة الشعرية في انحدار حتمي كلما مر الزمن إلى أن تصل لنقطة الموت، ومن المستحيل أن تأخذ منحنى تصاعدي وهذا ما ترفضهُ الحداثة.

وأنا هنا أتكلم عن المبدأ الفكري الذي ينطلق منه كلا التيارين، تاركاً النقاش في ما ينتج عن كلا المبدأين من آثار على الكتابة الشعرية لكل تيار لمقالات أخرى.

  أسئلة يثيرها الطرفان:

• س: هل الخروج على الشكل العمودي مثلاً خروج إيجابي؟ أم أنه مجرد تغيير لا أثر له على النص؟

• س:أليس بإمكان الشاعر الحديث أن يكتب ما يريده على ذلك الشكل إذا تمكن منه؟

• س:أليس عدم الكتابة على ذلك الشكل دلالةً على ضعف الشاعر؟

• س: أليسَ العرب هم أهل الفصاحة والبلاغة، أليس القرآن ونهج البلاغة معجزتان في البلاغة، إذن لماذا نحيد عن هذه الطرق ونبتدع طرقاً أخرى ما أنزل الله بها من سلطان؟

• س: في المقابل، أليس من حق الجيل الجديد أن يختار الشكل والأسلوب الذي يناسبه؟

• س: لماذا هو يأكل ويلبس ويتعلم ويفكر بطريقة تختلف عن آبائه ولكن في الشعر يجب أن يكتب كما كانوا يكتبون؟

• س: ما الذي يجبرهم على الكتابة كآبائهم في الشكل الشعري مثلاً وما كان للخليل بيعةٌ في الرقاب كما يعبر السيد مصطفى جمال الدين؟ أم أن المسألة فقط إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون؟

• س: لماذا اعتبر التاريخ خروج أبي تمام خروجاً شرعياً، وجعله رمزاً من رموز شعرنا، مع أنه منشق على تراث آبائه؟ بل إن أحدهم قال له: إذا كان كلامك شعراً فكلام العرب باطل، كما جاء في أحد الروايات التاريخية، أي أن شعره كان خارجاً عن طريقة القرآن وكلام الإمام علي .

• س: ألا يحق للحداثيين الخروج كما خرج أبو تمام، إذ أن خروجه لم يكن في الشكل وخروجهم أيضاً ليس في الشكل قطعاً بل الشكل جزء من الخروج ليس إلا؟

   ثانياً: قضية الوضوح والغموض:
 
كما ذكرتُ سابقاً أن كثير من الناس يربط بين الغموض وشعر الحداثة، وهم معذورون في ذلك كون الغموض سمة غالبة على شعر الحداثة وإن كان كما بينا أن ليس بينهما ارتباط شرطي، ولا أريد هنا أن أدخل في تحليل ظاهرة الغموض ومناقشة أسبابها فذاك بحث يطول ولكنني فقط سأستعرض مواقف أجدادنا من هذه الظاهرة.

دائماً ما يكون أول احتجاجٍ على شعر الحداثة أنه شعر غامض لا يُفهم ولا يعرف أحد معناه بل ويجزم بعضهم أن هذا الكلام المسمى بالحداثة لا يعلم حتى الشاعر الذي كتبه ما يقصد به، وإنما هو كلمات مرصوفة بجانب بعضها لا تؤدي إلى معنى، هذا الاحتجاج تجده في المنتديات وتجده في الجلسات الشعرية وفي الاحتفالات وفي الكثير من التجمعات الشعرية، ويسألُ بعضهم: أليسَ بإمكان الشاعر الحديث أن يقول ما يريد «إن كان حقاً عنده ما يريدُ قوله» بطريقة واضحة وسهلة كأجداده الشعراء؟ ألا يرى كيف أن أمير المؤمنين جمع المعاني الغامضة في عبارة سهلة؟ ألا يرى القرآن وهو المعجزة والذي يحوي ما يحوي من العلم الذي لا يستوعبه مخلوق ليس به غموض؟ ألا يرى التراث المليء بالقصائد الرائعة والخالدة والتي ليس بها أي غموض؟ هذه الإشكالات وغيرها التي نسمعها كثيراً والتي من حقهم أن يطرحوها والتي ليس محل الإجابة عليها هنا كما قلت تشبه الإشكالات التي طُرحت على شعر أبي تمام من قبل معاصريه ومن جاء بعدهم والتي أثارتها قضية الغموض.

يصف الحسن بن بشر الآمدي صاحب كتاب الموازنة شعر أبي تمام الذي هو عنده «لا يشبه أشعار الأوائل ولا على طريقتهم»[7]  بأنه مليء بـ «المعاني الغامضة التي تستخرج بالغوص والفكرة»[8]  في قبال شعر البحتري الذي هو عنده «ما فارق عمود الشعر وطريقته المعهودة»، ويقول أحد المؤيدين لشعر أبي تمام «إنما أعرضَ عن شعر أبي تمام من لم يفهمهُ، لدقة معانيه، وقصور علمه عنه، وفهمتهُ العلماء وأهلُ النفاذ في علم الشعر، وإذا عرفت هذه الطبقة فضله لم يضره طعنُ من طعنَ بعدها عليه»[9] ، وهذا الكلام يشبه كلام أهل الحداثة الذين يقولون بأن شعرهم لا يفهمه إلا النخبة والذين يملكون الحصيلة الثقافية العالية التي تمكنهم من قراءة الشعر الحديث فيكون الذنب في عدم الفهم هو ذنب القارئ الذي لا يمتلك تلكَ الثقافة شعرية، ومن الغني عن الذكر تلك القصة التي يروونها عن أبي تمام حينما أنشدَ قصيدته في مدح عبدالله بن طاهر «هُنَّ عوادي يوسفٍ وصواحبه» قال له أبو سعيد الضرير وأبو العميثل الأعرابي وكانا من أعلم الناس بالشعر على حد وصف الآمدي: لم لا تقول ما يفهم؟ فقال لهما: لم لا تفهمان ما يقال؟ وهذا مشابه لرد الحداثيين على من يعترض عليهم، وإشارة الحداثيين إلى أن الغموض من أحد نواتج الثقافة العالية التي يمتلكها الشاعر هو نفسه ما يشير إليه أنصار أبي تمام من أنه «كانَ مُغرماً بالشعر وانفردَ به وجعلهُ وكده وألف فيه كتباً واقتصر من كل علم عليه» وأن «الشاعر العالم أفضل من الشاعر غير العالم»[10]  وأن الأعرابي لأنه لا يمتلك ثقافة أبي تمام لا يفهم شعره كما ذكروا، وفي المقابل فإن أحداً لم يُشكل على شعر البحتري بالغموض والذي يفضله بعضهم على شعر أبي تمام لأن جميع الناس تفهمه وتستحسنه «فروى شعره واستحسنه سائر الرواة على طبقاتهم واختلاف مذاهبهم، فمن نفقَ على الناس جميعاً أولى بالفضل وأحق بالتقدمه»[11]  كما يقول الآمدي، وهو مشابه للرد الذي يرده المعارضين للغموض في الشعر.

  أسئلة:

• س: هل شعر الحداثة فعلاً مجرد كلمات مرصوفة ليس لها معنى، أم أن لهذا الغموض أسباباً متى عرفها المرء استطاع أن يفهمه؟

• س: وإذا كان مجرد كلام مرصوف كيف نفسر وجود متذوقين له من مثقفين ونقاد ومحبين للشعر الحداثي وممارسين لكتابته؟ أكل هؤلاء يعيشون في أوهام؟

• س: هل على الشعر أن يستحسنه كل الناس كشعر البحتري؟ أم يجب أن يكون للنخبة فقط كشعر أبي تمام؟

• س: لماذا كان شعر أبي تمام غامضاً في ذلك الوقت على الأعراب وعلى بعض من لهم الخبرة في مجال الشعر، لكننا لا نجد صعوبة الآن في فهمه، أي أن شعر أبي تمام الذي كان للنخبة في الماضي أصبح الآن لجميع الناس؟

• س: ألا يدلنا هذا على أن شعر أبي تمام كان يحمل ثقافة أعلى من جيله، وبعد مرور الزمن وتطور ثقافة الناس أصبح شعر أبي تمام عندهم سهلاً؟

• س: ألا يقودنا هذا للقول بأن الشعر الغامض الآن سيكون واضحاً في المستقبل؟

• س: أليس التشابه في الردود بين الماضي والحاضر، يدلنا فعلاً على أن سبب عدم الفهم هو قلة ثقافة المتلقي في كثير من الأحيان؟

• س: لماذا يصر المعارضين للحداثة على أن الشعر الحداثي غير مفهوم مع أن هناك غيرهم ممن يفهمونه ويتذوقونه مثلما حدث لشعر أبي تمام؟ لماذ لا يقول هؤلاء أنهم هم الذين لا يفهمون لا أن الشعر هو غير المفهوم، أي يعترفون بأن العلة في القابل لا في الفاعل كما يقول المناطقة؟

  ثالثاً: قضية الأصيل والدخيل:
 
لا شك أن قضايا الحداثة والتجديد والخروج على النسق وعلى نظام القبيلة كما يعبر الغذامي بدأ عندما انفتحت الثقافة العربية على الثقافات الأخرى وبدأت تتأثر بها، وحينما أقول تتأثر فليس قصدي بالطبع أنها بدأت تقلد تقليداً أعمى، بلى هناك مقلدون، ولكني أعني بالتأثر هو الاستفادة الواعية من الثقافة الشعرية التي وصلت لها الحضارات الأخرى، كما استفاد العرب من غيرهم في تطوير حياتهم على مختلف المستويات الاقتصادية منها والعلمية وغيرها، مما أدى لوصم تيار الحداثة بأنه تيار دخيل ورفضه لأنه يحمل ثقافة غريبة وليست ثقافة عربية خالصة، واتهامه بأنه مؤامرة لتخريب اللغة والعبث بها ولذلك وجب الوقوف ضده ومحاربته.

وهذا بالضبط يشبه ماحدث منذ نشوء الدولة الأموية وتوسع أطرافها وخصوصاً بعد قيام الدولة العباسية و«التقاء أو اصطدام الفكر الإسلامي – العربي بالفكر الآخر في البلاد المفتوحة: سُمِّيَ الأولُ بـ (الأصيل) وسمي الثاني بـ(الدخيل)»[12]  و«كان الدخيل يتمثل من جهة في الثاقافات القريبة: البابلية والآرامية واليهودية والمسيحية ويتمثل من جهة أخرى في الثقافات البعيدة:الهندية والفارسية واليونانية، ونعرف جميعاً حيوية صراع الثقافة العربية مع هذه الثقافات وتفاعلها معها وتنوعهما وغناهما»[13] ، هذا الانفتاح أدى إلى تطور حياة العرب المادية والفكرية والثقافية وكان لا بد لهذا التطور أن يمس الأدب أيضاً، غير أن مشكلة الأدب أنه كان مرتبطاً باللغة واللغة هي الشيء المقدس عند العرب لارتباطها بالقرآن، فأي خروج على أعراف اللغة وطريقة الأوائل كان يعد عند بعضهم بمثابة الخروج عن الدين، ولذلك نشأت حركة معارضة للتجديد في الشعر والدعوة للتمسك بمذهب القدماء لهذا السبب ولأسباب أخرى مثل الفكر المقدس للماضي كما ذكرنا سابقاً.

ويقول طه حسين[14]  واصفاً ما حدث بعد توسع الدولة العباسية «اشتدت رغبة العرب من أهل المدن على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم الاجتماعية، وكان هذا الانتصار عاماً، تناول الحياة المادية والعقلية، وتناول معهما حياة الشعور. ففكر العرب المحدثون بطريقة تخالف مخالفة شديدة تفكير العرب القدماء، وعاشوا كذلك في دورهم وقصورهم عيشة تخالف عيشة آبائهم، وظهرت عندهم العلوم وضروب الفلسفة، وتغيّر لهذا كله حسّهم وشعورهم، فتغيّر لسان هذا الحسّ وهذا الشعور، وهو الأدب، نثراً كان أو شعراً»، وقد عِيبَ على أبي تمام أنه يأتي في شعره بفلسفيِّ الكلام الذي لا يفهمهُ الأعرابي وهذا نتيجة لثقافة أبي تمام التي لا يمتلكها الأعرابي الذي كان يفهم شعر البحتري بدون الحاجة لشرح لأن البحتري أتى من بادية منبج ولم يحتك بالثقافة الغريبة التي نهل منها أبو تمام.

وبالتالي فكما أن أبو نواس رفض نهج القصيدة القديمة ووقوفها على الأطلال وقرر أن يبني قصيدته وفق تجربته هو ومستمدة من حياته الشخصية لا من حياة آبائه وكما أن أبا تمام خرج على عمود الشعر وكذلك من جاؤوا بعدهما، فكذلك الحداثيون اليوم يقولون نفس الكلام فالقصيدة يجب أن تكون انعكاساً لحياتهم في شكلها وفي مضمونها وأسلوبها وأدواتها وصورها ولغتها وثقافتها ورؤيتها والقصيدة القديمة لا تفي بهذا الغرض مطلقاً، وكما أن هناك معارضين لمدرسة أبي تمام فالمعارضون موجودون اليوم أيضاً.

ولعل هذا يفسر لنا تأخر ظهور الصراع بين الفريقين في منطقتنا عن العالم العربي الذي تجاوزه كما بينا، فنحن لم ننفتح على ثقافة الآخر إلا بعد انفتاح العالم العربي بعقود من الزمن كوننا كنا نعيش وما زلنا على هامش الثقافة.

  أسئلة:

• س: بما أن الحداثة نتجت بسبب انفتاحنا على الآخر، ألا يشكك هذا في مصداقية الحداثة ودعاواها؟

• س: ما الضرر في أن نستفيد من الآخر لتطوير تجربتنا الشعرية، وقد استفدنا منه في كثير من مجالات حياتنا؟

• س: ألم تكن الحضارة العربية نتجت بسبب انفتاحه على الآخر هو أيضاً؟

• س: ألم تكن ثورة أبي تمام والمحدثين على طريقة العرب ناتجة عن انفتاحهم وانفتاح عصرهم على الثقافات؟

• س: إذا كان كلام طه حسين صحيحاً في أن الانفتاح غير من شعور الشعراء وتفكيرهم وبالتالي تغير شعرهم، لماذا ننكر على الحداثيين تغييرهم استجابة للتغير الذي حدث لهم في فكرهم وشعورهم مما جعلهم يكتبون شعراً مختلفاً؟

• س: ألا يقودنا هذا إلى أن الزمن له تأثيره على نظرتنا للشعر، وأن في المستقبل ستتغير نظرتنا لما نسميه (الحداثة)؟

  النتيجة:

لم يكن هدفنا من هذا المقال هو الانتصار لفريق دون الآخر أو للحكم على الآراء وتصويب أناس وتخطيء آخرين، بل كان هدفنا هو قراءة تاريخنا الشعري قراءة واعية وقراءة المراحل التي مر بها لنستفيد من هذه القراءة لعلها تبصرنا أكثر وتزيد وعينا أكثر، لنخلص إلى نتيجة ما كنا لنصل إليها لو لم نقرأ التاريخ ونبسِّطها في الشكل التالي:

انفتاح على ثقافة الآخر ==> تطور في مجالات الحياة المختلفة ==> تطور وتغير في ثقافة الشعراء وتطور في الكتابة الشعرية والأدب بشكل عام ==> إنتاج أدبي مختلف على غير طريقة الآباء والأجداد ==> صراع بين المحدثين والمتمسكين بالقديم ==> انتصار المحدثين واندغام إنتاجهم ضمن الثقافة وانحسار التيار المتمسك بالقديم.

هذا ما حدث في تراثنا العربي، وهذا ما حدث في عالمنا العربي، فهل هو ما سيحدث في منطقتنا؟

سؤالٌ لستُ أنا من سيجيبُ عليه بالطبع!!

 

[1] أدوني س: ها أنت أيها الوقت، سيرة شعرية ثقافية.
[2] أبو زيد القرشي: جمهرة أشعار العرب.
[3] الآمدي: الموازنة بين بين شعر أبي تمام والبحتري.
[4] المرزوقي: شرح الحماسة لأبي تمام.
[5] د.وحيد صبحي كبابة: الخصومة بين الطائيين وعمود الشعر.
[6] ابن سلام الجمحي: طبقات فحول الشعراء.
[7] الآمدي: الموازنة بين بين شعر أبي تمام والبحتري.
[8] نفسه.
[9] نفسه.
[10] نفسه.
[11] نفسه.
[12] أدوني س: البدايات.
[13] نفسه.
[14] طه حسين: حديث الأربعاء.