شهر رمضان شهر الرحمة والعرفان
لقد خص الله سبحانه وتعالى شهر رمضان وميزه على بقية الشهور حيث جعله رحمة للعباد روحياً وبدنياً أي إن هذه الرحمة عائدة على الروح والبدن بفوائد جمة نذكر منها ما يلي:1- الفوائد الروحية:
لشهر رمضان فوائد روحية معنوية كبيرة جداً- من تهذيب الأخلاق وصفاء النفس وطهارة الروح- مما تجعل الإنسان يعيش حالة من الروحانية والنورانية داخل مملكة نفسه, ويطرأ على الإنسان تبدلٌ غريب في أعماق نفسه ليس له دخل فيه فهو من الله سبحانه وتعالى, كذلك أجواء الكون تتبدّل تبدُّلاً روحانياً جميلاً يبعث البهجة والسرور داخل النفس ولهذا تلاحظ تبدُّل حتى المنشغلين بالدنيا وملذَّاتها وزخارفها تراهم يتوجَّهون في هذا الشهر الفضيل للمساجد و الدعاء وقراءة القرآن وأعمال الخير بمختلف أنواعها, فكأنهم عطاشى من جراء الركض واللهاث وراء متاع الدنيا راكنين إلى نبع هذا الشهر الفضيل ملتمسين فيه الارتواء من رحمة الله وغفرانه.
ومن ناحية أخرى ففي شهر رمضان عرفانٌ عملي و سيرٌ إلى الله بخطى حثيثة وطي للمراحل الكمالية أسرع من بقية الشهور, فعلى الإنسان السالك والذي يريد أن يسلك طريق العرفان العملي (السير والسلوك) عليه الاستعداد والتجهيز لهذه الرحلة الإلهية, وذلك لأن رمضان لغة: هو من (الرمض) وهي الهاجرة ومن كذلك (الرمضاء) وهي الصحراء المقفرة الحارة من حرارة الشمس.
والذي يريد الدخول في الرمضاء عليه الاستعداد بالروح والبدن و إلا سوف يلاقي المصاعب ولا يستطيع المواصلة ويرجع خائباً خاسراً يجر أذيال الخيبة والندامة, ولهذا كان شهرُ رجبَ وشعبانَ
هما الإرهاصات والمقدمات لهذا الشهر الفضيل فمن تزود وتعبأ فيهما سوف يكون مُهيأً ومؤهلاً لكي يسير في خط السير والسلوك إلى الله ونيل الكمالات المعنوية العالية والوصول إلى الكمال المطلق والفناء فيه هذه عناية منى المريدين وقد جاء في الحديث القدسي- كما في الكافي و الوسائل- عن رسول الله : ( كل عمل ابن آدم له إلاّ الصوم فإنه لي وبه أجزي ).
كذلك الشعور بالجوع يجعل الإنسان في حالة من المساواة مع الفقراء (وكلنا فقراء إلى الله) الشعور بآلامهم ومعاناتهم باعثُ على التفكير فيهم وتقصي حالاتهم والسعي في مساعدتهم عن طريق مباشر أو غير مباشر وشهر رمضان رحمة لنا ولأمواتنا:
أ)- رحمة لنا حيث تحل فيه البركة والرحمة وتغل وتُصفَّد فيه الشياطين ولا يبقى سوى النفس لمجاهدتها وهذا أكبر الجهاد والتفرغ لتهذيبها وترويضها وتزويدها بكل الصفات الأخلاقية الكمالية.
ب)- ورحمة لأمواتنا, ففيها تخمد النيران وتزداد الإمدادات الجزيلة من الأحياء إليهم بالختمات القرآنية والصدقات والدعاء والأعمال الصالحة حيث جاء في الأثر (اللهم اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات وتابع اللهم بيننا وبينهم بالخيرات)
2-الفوائد البدنية للصوم:
هناك الكثير الكثير من النتائج التي توصّل إليها الأطباء من خلال التجارب والتحاليل المختبرية على أن للصوم فوائد كبيرة صحية للبدن وهو علاجٌ للكثير من الأمراض وكل هذا وذاك يُختزل في قول الله سبحانه وتعالى (وأن تصوموا خيرٌ لكم) وقول رسوله : (صوموا تصحوا) وقول أمير المؤمنين
:(الصيام أحد الصحتين).
ولا بأس أن نذكر أهمَّ الفوائد الصحية كما جاء في تقرير الأطباء فهذا آيتون سنكلير يقول:(إن أكبر شيء يعطينا إياه الصوم هو مستوى جديد من الصحة, وهذا التجدد في الصحة ينعم به الكبار في السن والشباب على حد سواء, وبالنسبة ذاتها, وذلك أن البنية تتجدد بكاملها فتتحسن وظائفها العديدة وتنشط. ويذهب إلى قرب من هذا القول الدكتور آلان الذي يعلن في النهاية عن نجاحه في استخدام الصوم لعلاج داء السكري والنقرس.
ويؤيده في ذلك كل من الدكتور كارلسون والدكتور جينجز وزعيم الثقافة البدينة في أمريكا بانا مكفادون الذي يؤثر عنه عبارته المشهورة (الصوم يستطيع أن يبرئ كل علة خابت في علاجها الوسائل الأخرى).
وفي كتابه الشهير(الإنسان ذلك المجهول) يقول الدكتور الكسيس كارل الحائز على جائزة نوبل في الطب والجراحة ما نصه:(إن كثرة وجبات الطعام وانتظامها ووفرتها تعطل وظيفة أدت دوراً عظيماً في بقاء الأجناس البشرية وهي وظيفة التكيف على قلة الطعام, ولذلك كان الناس يلتزمون الصيام أحياناً) ويقول:( قد يحدث للصائم أول الأمر الشعور بالجوع والتهيج العصبي ربما ثم يعقب ذلك شعور بالضعف غير إنه يحدث إلى جانب ذلك أمور خفية أهم بكثير منه فإن سكر الكبد سيتحرك ويتحرك معه الدهن المخزون تحت الجلد وبروتينات العضل والغدد وخلايا الكبد وتضحي جميع الأعضاء بمادتها الخاصة بالإبقاء على كمال الوسط الداخلي وسلامة القلب, وإن الصوم لينظف ويبدل أنسجتنا) ويؤكد ذلك أيضاً الدكتور ماك فادون وهو أحد علماء الصحة الكبار في أمريكا فقد جاء في كتابه الذي ألفه عن الصوم بعد أن ظهرت له نتائج عظيمة من أثره في القضاء على الأمراض المستعصية..(إن كل إنسان يحتاج إلى الصيام, وإن لم يكن مريضاً لأن سموم الأغذية والأدوية تجتمع في الجسم فتجعله كالمريض, وتثقله ويقل نشاطه, فإذا صام خف وزنه وتحللت هذه السموم من جسمه وذهبت عنه ليصفوا بعد ذلك صفاءً تاماً, ويستطيع أن يسترد وزنه ويجدد جسمه و يحس بنشاط وقوة لا عهد له بهما من قبل)، وفي الطب القديم كان يعد الصوم من فضائل الحياة وقد كان سقراط وأفلاطون يصومان عشرة أيام في كل بضعة شهور وكان بعض الرهبان المسيحين يأمرون بالصوم لعلاج كثير من الأمراض العصبية. والطبيب العربي ابن سينا كان يفرض صوم ثلاثة أسابيع في كثير من الحالات المرضية التي كانت تعرض له, وكان يعد الصوم عاملاً في علاج الجدري والزهري حتى قيل أن في وقت الحملة الفرنسية على مصر كانت المستشفيات العربية تتوصل إلى نتائج طبية في علاج هذا المرض الأخير بالصوم.
وقد كتب الدكتور روبرت بارتولو وهو طبيب أمريكي من أنصار العلاج الدوائي للزهري قائلاً:( لا شك أن الصوم من الوسائل الفعالة في التخلص من الميكروبات ومنها ميكروب الزهري لما يتضمنه من إتلاف للخلايا ثم إعادة بنائها من جديد) وتلك هي (نظرية التجويع في علاج الزهري) المشهورة طبياً [1] .
في رحاب رسول الله :
أردت في نهاية المطاف أن نعيش في رحاب الرسول ونستقي من عذب كلماته وتوجيهاته ولن نجد أفضل من حبيب الله وحبيب قلوبنا رسول الرحمة يبث الحياة في قلوبنا بكلماته التي ما أن تقع عيوننا عليها ونقرأها بقلوبنا نشعر وكأننا نطير ونحلّق في عالم من نور يغمر كل كياننا ونحس بلذة روحية لا تقارن بلذات الدنيا بأسرها, والتي لا يمكن أن توصف مهما رهف القلم ورق الحس والشعور.
فدعونا نعيش- ولو قليلاً- هذه الحالة مع رسول الله عندما خطب تلك الخطبة في آخر جمعة من شهر شعبان واصفاً شهر رمضان وإقباله علينا بالخيرات, حيث قال (ص):(أقبل عليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة) فهو إذا بركة لنا ورحمة بنا ومغفرة لذنوبنا وما ارتكبناه طوال سنتنا.
(شهرٌ هو عند الله أفضل الشهور وأيامه أفضل الأيام وساعاته أفضل الساعات هو شهرٌ دُعيتم فيه إلى ضيافة الله) فتصور أنك دُعيت من قبل ملك دولة من الدول إلى ضيافته, ماذا سوف تعمل قبل أن تذهب إلى هذه الضيافة الملكية وكيف سوف تتجهز, فها هو ملك الملوك يدعوك إلى ضيافته فهل تذهب إليه بنفس ملوثة بالآثام والأخلاق الذميمة وبقلب متسخ بأدران الدنيا وشهواتها أم ماذا؟ (وجعلتم فيه من أهل كرامة الله) وهذه من نعم الله علينا فماذا سوف نقابلها بعد الشهر الكريم, بالمعصية أم بماذا؟
(أنفاسكم فيه تسبيح) من غير تعب ونصب, تسجل لك حسنات بعدد أنفاسك فانظر إلى كرم الله وتأمل.
(نومكم فيه عبادة) هذه النعمة إلى من أتعب نفسه بالعبادة لا إلى من لم يراعِ حق الضيافة ويعبث ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً,ولذلك فإن من آداب الصوم وخاصة في شهر رمضان ترك معاشرة السفهاء وحضور مجالس البطالين فلا يجعل الإنسان العاقل يوم صومه كيوم فطره.
( وعملكم فيه مقبول ) كل عمل يوصلك إلى الله في هذا الشهر فهو مقبول فاسعى جهداً أن يكون عملك سيراً وسيرك عملاً حتى تصل في نهاية المطاف إلى غاية المنى (فملاقيه) و (فإن الجنة هي المأوى) جنة اللقاء ومأوى الله سبحانه وتعالى.
(ودعاكم فيه مستجاب) إذا لم نحجبه بالذنوب, لأن الله لم يحتجب عن خلقه لكن حجبتهم الذنوب عنه, فنسأل الله أن يغفر لنا ذنوبنا التي تحبس الدعاء التي تراكمت على قلوبنا فصيرتها حجب غليظة.
(فسألوا الله ربكم بنيات صادقة) العزم على عدم العودة إلى الذنوب و(قلوب طاهرة) ولا تطهر إلا بعد تزكيتها من الآثام والذنوب والصفات الذميمة.
(أن يوفقكم لصيامه) والصوم الحقيقي صوم الجوارح والجوانح أي صوم الأذن واللسان والعين والبطن والفرج والقلب أيضاً- فأن القلب جانحة كما أن الأعضاء جوارح- عن كل ما حرم الله, فالبعض يتصور أن الصوم هو الامتناع عن الأكل والمحرمات في النهار ولا بأس بأن يرتكبها في الليل تارك العنان للجوارح تفعل ما يحلو لها, فهذا ليس صوماً حقيقياً وكاملاً ولا ينتج عنه إلا التعب والمشقة من جراء الجوع والعطش, وهذا ما عبرت عنه الرواية التي تقول (كمن صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش) ولذلك ورد أيضاً عن الإمام الصادق أنه قال: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك من الحرام و القبيح) وسمع النبي امرأة تسبُّ جارتها وهي صائمة فأمر لها بطعام فقالت: أنا صائمة يا رسول الله فقال
:كيف تكونين صائمة وقد سببتِ جارتكِ.
لذلك قال:(فإن الشقي من حُرم غفران الله في هذا الشهر العظيم) أسأل الله لي ولكم أن لا نكون من الأشقياء فنحرم غفرانه ونطرد من ضيافته فإنه الخسران المبين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين