المنبر.. أمانة ورسالة
إلى عهد ليس بالبعيد كان المنبر هو الوسيلة الإعلامية الوحيدة التي توصل الفكر الشيعي الإمامي إلى غيره وبالذات بالشكل الفكري الجماعي.
وهذا يرجع بالدرجة الأولى إلى أنغلاق التوجهات السياسية ضد الشيعة في العصور الماضية مع مرور المنبر الخطابي بجميع أدواره التاريخية حيث مرّ بعدة أدوار
نوجزها ، فيما يلي:-
(الدور الأول:- مرحلة مابعد الثورة إلى سقوط بغداد أو قبله بقليل.
الدور الثاني:- من سقوط بغداد وطيلة العصور المظلمة إلى العصر الحديث.
الدور الثالث :- بدايات العصر الحديث إلى الآن)(1).
وطبعا هناك عوامل ساعدت على بقاء المنبر إلى الآن منها :-
1- (الانفعال العفوي للمأساة .
2- أنها ثورة إسلامية .
3- استعمال بعض الثورات لهذه الثورة كعامل من عوامل الإثارة وحشد الجماهير.
4- تشجيع أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) على إحيائها.
5- كونها وسيلة من وسائل المعارضة للحكم الظالم.
6- رد الفعل ضد الطغاة من الحكام.
وأهم ما يميز ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) من مظاهر ولاسيما الشعبية منها
مظهرين أساسيين ، هما:-
1- المظاهر الاحتفالية ( مجالس الذكرى).
2- ظاهرة البكاء)(2).
وأما من حيث السمات فقد تميزت المدرسة الخطابية الحسينية على وجه الخصوص عن غيرها بأسلوبها( الساخن المفعم باللوعة والأسى والمطبوع بالعواطف والدموع، ونقل روائع الأفكار من مدرسة أهل البيت بأمان واعتماد) (3).
وكذلك لها هدف وسمة بارزة وهي (الدعوة والإقناع والثقافة والإعلام فّإذا تتمثل الخطابة في المقدرة البيانية والبراعة في مواجهة الجمهور بطرح الأداء وعرض
الأفكار.. ولذلك عرّف أرسطو علم الخطابة بأنه القوة القادرة على الإقناع)(4).
وفي مدرسة ومنبر الإمام الحسين (عليه السلام) ارتقى من هو أهل لذلك فقد قيض الباري تعالى لهذه الثورة ولهذا المنبر من يحرسه ويتمم مسيرته فبرز الكم الغفير
منهم على مر العصور ممن يعلن شعارات الإمام الحسين ويخدم منبره .. وخلال هذه الإطلالة سيتم التركيز على بعض الخطباء من الذين برزوا في العصر الحديث ..
ولنبدأ برجل تألق في عالم المنبر حتى كان كل وقته بل كل نفسه للمنبر أنه الشيخ الكبير محمد بن علي اليعقوبي فأنه من فطاحل المنبر ومن أساطينه وعلى هذا يعد أيضا
من جهابذة الأدب العربي وعمالقته.
(ولد في منتصف شهر رمضان سنة 1313هـ في مدينة النجف الأشراف ،ولم يتجاوز عمره الحادية عشرة حتى ارتقى المنبر الحسيني فأجاد أيما إجادة حتى قال عنه الشيخ الأميني صاحب الغدير أنه خطيب العصر الفذ وأحد أمراء الكلام)(5).
إلا إننا وللأسف الشديد لم نقع على شيء من محاضراته ولا سيما السمعية منها ، ولربما يرجع ذلك إلى البعد الزمني حيث أنه منذ بداية محاضرته وإلى الآن هناك أكثر
من مائة عام ، فالتأخر في استخدام الأجهزة الإعلامية وعدم اهتمام الناس في التدوين هما السببان الرئيسيان في ضياع معظم محاضراته.
ونعطف على خادم آخر من خدّام المنبر الحسيني أنه الشيخ الدكتور أحمد بن الشيخ حسون بن سعيد الليثي الوائلي. وهو أشهر من أن يعرف به أو أن يذكر نسبه .. فهو زعيم الخطباء بلا فصل.
وما يهمنا هنا هو جانبه الخطابي حيث أنه له ( تاريخ عريق ومجد أصيل في خدمة المنبر الحسيني الشريف فقد تدرج منذ بواكير حياته في هذا الجانب إلى أن أصبح في
وقت قصير علم من أعلام الخطابة وركن من أركانها ..وظل كذلك حتى تسلم الزعامة لها وأصبح فارس ميدانها )(6).
فشد جمهوره بعمق مواضيعه وغزارة ثقافته حتى أصبح لا يكاد يخلو بيت من محاضراته ولا محفل من الاستماع إليه ..فقد سمعه القاصي والداني بل حتى من لا ينتمي إليه في فكره ومذهبه.
فقد كنت راكب مع أحد أبناء السنة والجماعة والتحديد عام 1409هـ وإذا به يسمعني إحدى محاضرات الشيخ الوائلي ، فقلت له أتفضل الاستماع إليه مع أنه على غير مذهبك فقال بالطبع لأن مواضيعه تواكب العصر الحديث.
ونطرق محطة أخرى من المحطات المتميزة للمنبر الحسيني إلا وهي محطة الشيخ عبد الحميد المهاجر الذي هو( عبد الحميد بن الحاج كزار عبد الرضا بن عبد الواحد
الشمرتي ، وإنما سمي المهاجر لهجرته من الرميثية مسقط رأسه إلى كربلاء وهو نجفي الأبوين.
وأما من حيث الخطابة فهو خطيب موسوعي طموح ومن الأركان المعاصرة الهامة في مؤسسة المنبر الحسيني (7).
وربما يعد الشيخ المهاجر من أكثر الخطباء شهرة إعلامية ولذلك ذاع صيته وانتشرت محاضراته على المستوى الإعلامي بشكل واسع في الإذاعات والقنوات الفضائية
والانترنت وغيرها من وسائل الإعلام.
وقد حصل لي موقف مشابه كالذي حدث مع الاستماع لمحاضرات الشيخ الوائلي وهذه المرة عام 1412هـ حيث ركبت أيضا مع أحد أبناء العامة لغرض توصيلي إلى البيت فإذا به قد فتح مسجل الصوت ليستمع للشيخ المهاجر فقلت له أتستمع له قال نعم.. قلت له ولماذا؟ قال لأن مواضيعه علمية ودقيقة.
وكذلك نتزود بقناة أخيرة من قنوات الإمام الحسين وهي قناة الشيخ مرتضى الشهر ودي .
فالشيخ مرتضى هو (الشيخ مرتضى بن العلامة الشيخ حسين بن الفقيه الشيخ علي الشهرودي .
ويتميز الشيخ الشهرودي بكثرة أسفاره العالمية من أجل نشاطه الحسيني فقد ارتقى المنبر في كثير من الدول الأوربية والمدن الأمريكية مثل نيويورك ولوس أنجلس وأسلم
على يديه عدد كبير من كوريا الجنوبية وهونغ كونك وله شعبية ومكانة في كثير من بلاد آسيا وأفريقيا.(8).
وكثير ما يطرح المنبر مثل هذه النماذج التي يحتذى بها والتي ترفع من شأن المنبر على المستوى الديني والاجتماعي والثقافي إلا أنه لكل جواد كبوه ولكل فارس هفوة،
وهذا يرجع بالدرجة الأولى إلى الخطيب نفسه لا إلى المنبر.
فترى أحيانا ما هو متعاكس مع هذا المستوى المتقدم من بعض الخطباء الذين يسعون فقط للاتجاهات أخرى غير النهوض بمستوى المنبر والهم في بعض الأحيان التحصيل المادي فقط ، وهذه هي الطامة الكبرى.. أو تراه أحيانا أخرى يكون همه الجالسين وليس الإمام الحسين أو الفائدة والثمرة المرجوة من المنبر فيقدم موضوعه
على حسب شكل الجالسين كيف هندامهم .. هل أغنياء أم فقراء .. وهذا فيه تدليل قاطع على عدم تحضير الموضوع.
فهذا أحد المشايخ يحكي لي فيقول ، كان أحد الخطباء على المنبر وكان يصول ويجول في الموضوع يمين ويسار ، ولما رأى أحد المستمعين قد دخل بزي مختلف وهندام ممشوق بدأ يرقع في الموضوع بغية ترتيبه فلما أن انتهى المجلس أتضح أن ذلك الشخص مجنون.
وآخر من المستمعين يقول لي بأن الخطيب كان ينقل الكثير من الأخطاء في موضوعه فلما أن نزل من المنبر – انتحى به جانبا وقال له أن لديك الكثير من الأخطاء ، فقال له بشكل غريب ومريب وما يدريهم كلهم نيام . والسؤال هنا أين الأمانة العلمية في النقل على المنبر بغض النظر عن المستمع، وأين الواجب الذي تمليه الأمانة عليّه كخطيب؟
وأنموذج أخير وهو لأحد الخطباء المشهورين (أحتفظ باسمه) يروى أو يقال أنه كان يتحدث في موضوع علمي بحت عن الهيدروجين و الأوكسجين .. فما إن انتهى من المحاضرة قام له احد المستمعين وكان كبير السن فقال له ، محاضرتك ممتعة وشيقة ومفيدة ولكن متبقي شيئا واحدا لم أعرفه فقال الخطيب وما ذاك قال لم نعرف الهيدروجين والأوكسجين من أنصار الإمام الحسين أو من أنصار يزيد(لع).
فكل هذه النماذج تدل على عدم التوفيق في اختيار الموضوع المناسب من قبل الخطيب والبعض لا يتحرز في النقل والأمانة العلمية .
والعجيب لو أردت الرد عليهم أو الكلام لقامة عليك القائمة واللائمة من قبل الناس والمجتمع .. وكأن الخطيب معصوم لا يجوز نقاشه ليعطوه الفرصة من حيث لا يشعرون لتقصير والنقص وعدم البحث لأنه سيعلم أن لا مناقش ولا حسيب ولارقيب.
وبهذا يسهم المجتمع بشكل فعّال في أضعاف دور الخطيب والمنبر بشكل عام .. ومن ثم يتم اللوم والعتاب ويتساءل المجتمع لماذا يضعف دور الخطيب.
وقد يكون السبب الخطيب نفسه للسبب المذكور آنفاً أو أسباب أخرى ، منها أن الخطيب في بعض الأحيان لا يكلف نفسه عناء البحث عن الموضوع فقد يأخذه جاهزاً من محاضرات سابقة من كاسيتات أو يحفظ مواضيع معينة ليلقيها طوال أيام السنة ، وهذا أيضا يضعف وضع المنبر لما في ذلك من أتكال على القديم وعدم التجديد.
فحتى أرتقي بمستوى المنبر لابد من طرح الجديد والمنوع والمفيد وهذا ما يرقب له جيل اليوم ويتطلع إليه.
لأن هذا ما يطور مستوى الخطباء في مواجهة تحديات وسائل الإعلام الأخرى التي في الغالب تسير في الاتجاه المعاكس لما يريد المنبر والإعلام الهادف الذي هو رسالة
الحق والحقيقة للعالم بأسره.