آية الله محمد هادي معرفة.. سيرة قرآنية
في هدوءٍ غادرنا إلى الرفيق الأعلى يوم الجمعة التاسع والعشرين من شهر ذي الحجة عام 1427هـ آية الله المحقق الشيخ محمد هادي معرفة، ودفن في أوائل شهر محرم الحرام 1428هـ بجوار مرقد السيدة فاطمة المعصومة في مدينة قم المقدسة بإيران.
أقول بهدوءٍ، لأنك لو تتبعت الوسائل الإعلامية والإخبارية لما وجدت -إلا ما ندر- نعياً أو تعزية أو مقالاً بخصوص رحيل هذا الرجل الذي كرَّس جل حياته لخدمة كتاب الله عز وجل والدفاع عنه، وقد كان في موته خسارة كبيرة جداً لعالم ما زال لديه الكثير من العطاء والفكر الأصيل.
وقد كان لآية الله معرفة -رحمه الله- الفضل الكبير في إحياء ونشر الثقافة القرآنية، ودحض الافتراءات التي توجه ضد القرآن الكريم، وتتبع مناهج المفسرين في التفسير، والتحقيق في مسائل علوم القرآن بكل موضوعية وأمانة علمية، كما أن له إبداعات وإسهامات واضحة تتعلق بالتدريس الحوزوي والأكاديمي للقرآن الكريم.
ومنذ صدورها عام 1424هـ ضمت مجلتنا «القرآن نور» في عددها الأول حواراً مع الأستاذ المحقق معرفة، تحدث فيه عن تجربته القرآنية، وكيفية تعاطي الحوزات العلمية مع قضية البحث القرآني، وحين سُئل عن تقييمه لمشواره الطويل في خدمة القرآن؛ أجاب: «أعتقد أننا وصلنا إلى أكثر مما كنا نطمح إليه، فنحن الآن مستعدون للإجابة على أكثر الأسئلة التي توجه إلينا حول القرآن بتمحيص، بعكس ما كنا عليه قبلئذ»[1] .
ولد آية الله معرفة في مدينة كربلاء المقدسة بالعراق عام 1349هـ، وكان من مهامه التي زاولها أثناء تحصيله العلمي بكربلاء بعض التحقيقات حول مسائل إسلامية منوعة ولا سيما في مجلة «أجوبة المسائل الدينية» التي كانت تنشر في كربلاء المقدسة آنذاك تحت إدارة السيد عبدالرضا الشهرستاني. وحين انتقل إلى مدينة النجف الأشرف عام 1379هـ لمواصلة دراسته العلمية؛ استمر في مزاولة مهمته تلك، وقد بعثته بعض الأسئلة القرآنية للاهتمام بشؤون القرآن الكريم من النواحي المختلفة، فشرع في تدريس التفسير وعلوم القرآن الكريم، ووسع من اهتمامه القرآني شيئاً فشيئاً، واستمر في نشاطه الدؤوب بعد هجرته إلى إيران عام 1391هـ وحتى وافته المنية.
ويرى آية الله معرفة «أن دراسة شؤون القرآن الكريم في مختلف جوانبه المتنوعة دراسة ممتعة، وهي في نفس الوقت ضرورة إسلامية ملحة، يستجيبها كل مسلم واعٍ وجد من هذا الكتاب السماوي الخالد حقيقة ناصعة وبرهاناً من الله صادقاً، فيه تبيان كل شيء وهدى ورحمة للعالمين»[2] . وقد وجد معرفة في القرآن الكريم سند الإسلام الحي، ومعجزته الباقية، والدستور الإسلامي الجامع، والكافل لإسعاد البشرية عبر تأمين جميع الحاجات النزيهة في كافة ميادين الحياة.
ويُعد آية الله معرفة أحد أبرز الباحثين والمحققين المعاصرين في المجال القرآني، وأهم كتبه في ذلك؛ كتابه: «التمهيد في علوم القرآن» في سبعة مجلدات، ناقش فيه الكثير من المواضيع والقضايا المتعلقة بعلوم القرآنية، كمسألة الوحي، ونزول القرآن، ومعرفة أسباب النزول، وتاريخ جمع القرآن ورسم خطه، والقراءات المتعددة، والناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، والإعجاز القرآني ودلائله، وغير ذلك مما كتبه بأسلوب مبسط مطوَّل، حاول فيه تتبع الآثار والآراء، ونقدها نقداً علمياً موضوعياً، مستعيناً بنصوص تاريخية ثابتة وروايات متواترة أو محفوفة بقرائن قطعية.
وحول سبب نشره لكتابه التمهيد، يقول: «والذي شدَّ من عزمي على إنجاز هذا الأثر المتواضع، أني لمست فراغاً في مكتبة الطائفة في عهدنا الحاضر -وقد كانت غنية قبل اليوم- فيما يخص جانب البحوث القرآنية مستوفاة ما عدا بحوث قليلة عالجت طرفاً من شؤون القرآن الكريم، وبقيت الجوانب الأُخر -وهي كثيرة- قابعة في زاوية الخمول، لا يجدها الباحث إذا ما حاول التطلّع على رأي الطائفة في ضوء مذهب أهل البيت »[3] .
وإلى جانب معالجاته القرآنية تلك، سلَّط آية الله معرفة تركيزه على مسألة دفع الشبهات والأساطير عن القرآن الكريم، وتبيان قدسيته وحفظ الله عز وجل له من كل نقص أو زيادة، ولذلك أفرد كتاباً كاملاً بيَّن فيه سلامة القرآن الكريم من التحريف تحت عنوان: «صيانة القرآن من التحريف»، وصفه العلامة الباحث والمحقق الشيخ جعفر السبحاني بـ«الكتاب الجليل»[4] .
كما أفرد معرفة كتاباً بعنوان: «شبهات وردود حول القرآن الكريم» للرد عمَّا عبَّر عنه بالتساويل الشيطانية التي حيكت حول هذا الكتاب الإلهي العزيز الذي ﴿ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت:42]، سواء تلك التي تحاول التشكيك في كون القرآن الكريم وحياً مباشرياً تلقاه نبي الإسلام من ملكوت أعلى، أو تلك المتأثرة بالبيئة وثقافات جاهلية كانت ساطية في وقت من الأوقات، أو ما حسبوه متهافتاً من إيهام التناقض في القرآن، أو احتمال وجود اللحن في القرآن، أو احتمال تحريفه.
أما الجزء السابع من كتابه «التمهيد في علوم القرآن»، فقد خصصه للإجابة على أكثر من ألف شبهة جديدة متداولة على ساحات الإنترنت اليوم، وعنونه بعنوان فرعي هو: «النهج القويم في الدفاع عن قدسية القرآن الكريم».
وقد فطن آية الله معرفة إلى أنه بعد مرور أربعة عشر قرناً على تفسير القرآن الكريم، وظهور مدارس تفسيرية مختلفة، والجهود المضنية لاستيعاب المعارف القرآنية، والاهتمام بمستلزمات التفسير، وعشرات الموضوعات الأخرى، كل ذلك حفّز على الاتجاه الجاد نحو فصل مهم في علوم القرآن، تحت عنوان «التفسير والمفسرون». ولذلك سعى لتأليف كتابه «التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب» المكوَّن من مجلدين؛ استعرض فيه تاريخ التفسير وترجمة القرآن، وتتبع بشمولية جيدة التفاسير ومناهج مؤلفيها عبر العصور المختلفة.
أما آخر الكتب التي اقتنيتها له مؤخراً، فهو كتاب «التأويل في مختلف المذاهب والآراء»، وهو عبارة عن بحث علمي مقارن وهادف يعنى بشؤون التأويل وعلاقته بالتفسير والمجاز والهرمينوطيقا. يقول عنه ناشره مركز التحقيقات والدراسات العلمية التابع للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية: «يعد دراسة موسعة في هذا الجانب من جوانب علوم القرآن، تقدّم تحقيقاً شيقاً حول جزئيات متعلقة بالتأويل كمذهب صميمي تمسكت به طائفة عريضة من المسلمين، وبيان الفرق بينه كعلمٍ يعنى بفحوى الآي العام وبين التخرصات التي أقحمت على أنها تأويل، بأسلوب رشيق وشفاف، بعيداً عن الفهم التقليدي الخاطئ، والتزمت الموروث في استيعاب القضايا المتعلقة في هذا النطاق»[5] .
ولآية الله معرفة كتب أخرى، منها: دور أهل البيت في تفسير القرآن، تاريخ القرآن، ولاية الفقيه، تحقيق عن مسألة الغناء والموسيقى.
.. رحمه الله.