وأذن في العاشقين بكربلاء 2/2
كان المسار المؤدي إلى داخل الصحن الحسيني يغص بالزائرين... لم يقوَ محسنٌ على موازنة قدميه.. زحام شديد والكل يتسابق ليحظى بالإمساك بالضريح وتقبيله.. تقدم خطوات متلاصقة يتوكأ على أطراف أصابعه يخط سير ناظريه بين رؤوس الزائرين.. سباچ ذهبي اللون تنبعث منه أنوار خضراء تتشربها فئات نقدية بداخله.. عطر الحضرة الحسينية يعبق المرقد..
تشبث محسن بالسباچ ممسكاً إياه بشدة شوقه، واضعاً هامته عليه.. بدأ بالزيارة والسلام على ساكن المرقد، تحية منه وتحية مشتاقين حجبتهم الأحداث الدامية من القدوم.. جال في خاطره: لماذا لا يسلموا أمرهم لله ويقدموا التضحية؟ الموت يمنعهم؟! إذاً لماذا يرددون في كل حين «يا ليتنا كنا معكم»، «بالروح والدم نفديك يا حسين»؟ شعارات.. شعارت.. ولا من مضحي!
أخذ السيد الهاشمي يشرح المعالم القدسية المحيطة بالمرقد والشخصيات التي دفنها حسين كربلاء يوم الطف.. انهمرت الدموع على خدي محسن.. أنَ أنةً أجهش بعدها بالبكاء.. تحت قدميه تقع نفس ساحة القتال!.. ما أحزنها من أرض وما أغربه من مكان..
جلس محسن لقراءة الأدعية والتأمل في معالم الحرم من الداخل، قطع كريستالية تعكس الأضواء... وثريات صفراء تضيء سكينة فوق رؤوس الزائرين، وضوء أخضر ينبعث من داخل الضريح... اتجه الاثنان ناحية القبة التي جعلها الله مضيفاً لقضاء حاجات القاصدين.. نعم فهو مولى في تربته الشفاء، و قبة يجاب بها الداعي إذا مسه الضر.. هاهم يتزاحمون للدعاء تحت قبة المولى .
خرج الاثنان من الصحن الحسيني متوجهين إلى مرقد أبي الفضل العباس .. خطواته أشبه ما تكون بالهرولة كما الحجيج الذين تركهم بين الصفا والمروة يهرولون..
لم تقل هيبة الحرم عن الحرم الحسيني، فالزوار هم الزوار، وأصحاب الحوائج هم أنفسهم إلا في طريقة خطابهم وسؤالهم.. انتهى الرجلان من تأدية مراسيم الزيارة، وعند خروجهم توقفوا أمام «ساقية العباس».. قربة تصب ماءً أشبه ما تكون بنافورة ترش الماء الأحمر تعبيراً عن الدماء التي أريقت في هذا المكان.. في طريق عودتهم توقفوا عند التل الزينبي وبقوا هناك نصف الساعة ليقفلوا راجعين إلى مقر سكناهم ..
في ربوع كربلاء وفي مساء اليوم التالي.. سار محسن مع مجموعة من الأصدقاء من منطقة القطيف الذين قدموا قبل يومين من وصوله.. أحياء محاطة بحراسات أمنية مشددة حيث مقر المحافظة.. رجال أمن يطوقون المكان، أخذ السيد الهاشمي يسير نحو الحرم الحسيني..
- ما رأيك بالصعود معي لأعلى سطح الحرم؟
- ها.. كيف؟ هل مسموح بذلك؟!
- عندي لقاء مباشر مع إحدى القنوات التي تغطي أجواء زيارة عرفة.
منظر يصعب وصفه.. مدينة متناهية الأطراف.. ومنارتان شامختان في وجه الطغيان والإرهاب، وأفواج الزوار تزحف نحو موقعنا في الأسفل.. أنوار خضراء وأخرى حمراء تستقبل القادمين، شباب وشيوخ يفترشون الأرض يتدفؤون بلهيب الحب والانتظار...
في الصباح الباكر حيث المحطة الأخيرة، توجه محسن ورفيقه إلى مدرسة العلامة ابن فهد الحلي.. حديث الوضع العراقي وسبل حماية الزوار كان مثار بحث المتواجدين.. يدخل في الأثناء غرفة الاستقبال أحد الطلاب بخطى متعثرة مخاطباً مسؤول المدرسة: سيدنا.. سيدنا.. صاحبنا حجي جواد القصاب چتلوه الإرهابيين.. وبكل هدوء واطمئنان يرد الحاضرون: الله يرحمه هذا حال الدنيا..
ساعة واحدة ويرفع أذان الظهر إيذانا بالرحيل.. آه من لحظات الوداع، ما أصعبها..
لا أريد المغادرة.. خمسة عشر يوماً لم تشفي ظمأ العطشان، دعنا نبقى يومين آخرين، اشتد محسن في إلحاحه وبدت نوبات جنونية في تصرفاته، لن أعود.. قسماً لن أعود.. سأبقى هنا..
أمسك به السيد الهاشمي يذكره باقتراب موعد العودة للدراسة.. أخذ بيده يسليه وهما في طريقهما للحرم لإلقاء تحية الوداع..
لم يقنعه كلام رفيق سفره، فالتزم الصمت ابتعاداً عن أي حديث في ذات الأمر.. دخل الحرم وأدى التحية مسلماً مودعا، سيدي على العهد.. أعاهدك على البقاء حسينياً.. ارتفع منه صوت البكاء والعويل، قبض السباچ بيديه بشدة وكأنه يستجير بمن ينقذه من غرقه في البحر.. بدأ صوت النياح يخف.. يتلاشى..
ظل واقفاً دقائق طويلة، يخاطبه رفيقه: هيا بنا، أزف وقت الرحيل..
بدأ محسن يترنح وهو لم يبارح مكانه ليسقط على الأرض جسداً متلوياً.. تجمع الناس من حوله لمحاولة إسعافه.. عرق غزير يتصبب من وجهه، وعينان مغرورقتان بالدمع.. يبدأ أحدهم بمساعدته على التنفس، يسقيه قطرات من ماء، ولكن عناده بقي يلازمه.. فلم يرض إلا أن يبقى جسده في كربلاء وتذهب روحه إلى بارئها.. مات مجنوناً في عشق الحسين..