الشيرازي.. عظيم مجهول قدره
المتتبع لتاريخ العظماء يرى أنهم مجهولين القدر محقرين المنزلة لدى عامة الناس طالما كانوا بين ظهرانيهم، فإذا ما ارتحلوا إلى عالم الخلود قدروا حق قدرهم ورفعوا إلى المكانة التي تليق بهم في حياتهم.
فمن أسباب هذا الجهل وذلك التحقير هو جهل الناس بحقيقة ذلك العظيم، فالناس أعداء ما جهلوا، فالجاهل لا يحيط بالعالم والوضيع لا يحيط بالرفيع كما النهر لا يحيط بالمحيط، عن علي : «إن الله أخفى اثنتين في اثنتين: أخفى أولياءه في عباده، فلا تدري فيمن تلقاه أيهم ولّي لله، وأخفى رضوانه في طاعته فلا تدري أي طاعة لك أطعت الله بها وكانت سببا في رضوان الله عز وجل»، وعن أبي جعفر الباقر عن آبائه عن علي قال:«إن الله أخفى أربعة في أربعة.. إلى إن قال: واخفي وليه في عباده فلا تستصغرن عبداً من عبيد الله فربما يكون وليه، وأنت لا تعلم».
ومن الأسباب الحقيقة الأخرى الحسد، والأمثلة على ذلك كثيرة و من أجل مصاديق هذا الأمر هم أهل البيت حيث يوضح لنا الباري عز وجل هذه الحقيقة من خلال هذه الآية الكريمة ﴿ أم يحسدون الناس على ما أتاهم الله من فضله فقد أتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة واتيناهم ملكا عظيما ﴾[1] .
ومما لا شك فيه وجود أسباب أخرى ولكن أردت من هذا التوضيح، أن تصل الصورة واضحة نقية للقارئ الكريم، إذا هي طبيعة بشرية وهناك حكمة ربانية من إخفاء الأولياء كما هو واضح من خلال الحديثين الكريمين اللذان تصدرا هذا الحديث.
فمن العظماء الذين لم يقدروا حق قدرهم ولم يرفعوا للمكانة التي تليق بهم الفقيد السعيد سماحة السيد آية الله محمد رضا الشيرازي قدس سره.
وهنا أخي الكريم ستجد مجموعة فلاشات رائعة من حياة سماحة السيد المقدس قد أغشى بها بصري وامتلك بها فؤادي عندما كان في الكويت وبعد أن استقر به المقام في قم المقدسة إلى جانب الإمام الشيرازي أعلى الله درجاته حيث أنه كان يرجع للكويت من كل عام في شهر رمضان المبارك فيصوم هناك الأسابيع الأولى من ذلك الشهر الكريم، وهذه صورة من تلك الصور لا مجال لذكر تفاصيلها.
00عزيزي القارئ..
أتركك مع تلك الصور القليلة التي عشتها معه لتقف على جانب من جوانب عظمته ورفيع منزلته سائلا الجليل جلا وعلى أن يرفعه في أعلى عليين ويحشره مع جده النبي الأكرم محمد وآله الطاهرين، راجيا من الله القبول وأن يوفقنا السير على نهجم واقتفاء أثرهم إنه سميع مجيب.
- هذا من عدم توفيقي:
ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين : «بكثرة التواضع يتكامل الشرف»[2] وفي حديث آخر: «ما تواضع أحد إلا زاده الله تعالى جلالة»[3] .
في زيارة من زياراتي للكويت ذهبت لبنيد القار عصرا حتى ألتقي بسماحة السيد رضوان الله تعالي عليه لأتشرف بالسلام عليه وأغرف من نمير علمه ولكن لم أجده في ذلك الوقت، فذهبت أخرى وقت صلاة المغرب فصليت خلفه في مسجد الرسول الأعظم في بيند القار وبعد الانتهاء من الصلاة سلمت عليه وقبلت يده الكريمة وأخبرته أني قدمت عصرا إليه فلم أجده، فأجابني بكلمة وقف لها شعري واقشعر لها بدني وهي: «هذا من عدم توفيقي» فكيف لرجل هو من سلالة الأنبياء وابن مرجع عظيم وهو مجتهد عليم أن يقول مثل هذه الكلمة لرجل مثلي؟ وما عساني أن أقول وهذا الرجل هو ابن ذلك النبي الأعظم الذي ارتاعت منه تلك المرأة عندما لقيته فقال لها على رسلك إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد.
- تواضع النور للنور:
في يوم الجمعة وبعد صلاة الظهر والعصر خلف السيد المقدس انتظرت أن ينتهي المصلين من السلام عليه حتى أذهب واسلم منفردا حيث أني آنس بذلك أكثر والناس ملتفين حوله، وفي ذلك الوقت لم أكن ملتفتا أن سماحة العلامة المهاجر كان ممن صل خلفه، وكان ممن يريد التشرف بالسلام عليه وتقبيل يده وإذا بنظري يقع على ذلك المنظر و سماحة العلامة قابضا على يد السيد المقدس وهو يريد تقبليها وسماحة السيد الرضا ينزع يده منه بكل لطف وإجلال رافضا ذلك العمل من الشيخ الكريم ولم يقبل الشيخ بذلك الرفض إلا بأن يقبل موضع النور من جبهته المباركة.
- باب التوبة مفتوح:
ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين : «الفقيه كل الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يؤيسهم من روح الله، ولم يؤمنهم من مكر الله»[4] .
كنت أنا وأحد الأحبة جالسين في حضرة سماحة السيد في مجلسه نسلتهم منه العلم والتقوى وإذا بجرس التلفون يرن وإذا بامرأة كانت في الطرف الآخر من السلك فبعد السلام والتحية على سماحة السيد قالت له أنها امرأة متزوجة ولكن غررها الشيطان الرجيم ففعلت الفاحشة فهل لها من توبة؟ وهل يجب عليها إخبار زوجها فأجابها بكلمتين إن تبتي تاب الله عليك وعليك بعدم الرجوع لمثل ذلك.
- الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه:
يقول أمير المؤمنين في صفات المتقين: «في الزلازل وقور وفي المكاره صبور»[5] .
في تلك السنوات العجاف وكل سنواتهم عجاف حيث أن المؤمن في بلاء وامتحان ما دام في الوجود، ففي الفترة التي ضيق فيها على والده واعتقل أخيه سماحة آية الله السيد المرتضى وحكم عليه بالإعدام، كان سماحة المقدس يجيب سائليه دائما عن أحوال والده وأخيه بكلمة واحدة وهي الحمد لله هما بخير، وهذا ما لمسته أنا شخصيا وليس نقلا عن أحد.
- ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة:
ورد في الحديث الشريف «الموقنون والمخلصون والمؤثرون من رجال الأعراف»[6] .
في العام ما قبل الماضي في شهر رمضان زرت الكويت مع بعض الأحبة للقاء بسماحته وبطبيعة الحال كان اللقاء به بعد صلاة المغرب، فبعد الصلاة والسلام عليه دعانا أن نذهب معه لبيته وتناول الإفطار فحاولنا أن نعتذر منه حتى لا نزاحمه في مثل ذلك الوقت ولكنه أصر علينا بالذهاب والجلوس معه ولو لبعض الوقت وبالفعل كان ذلك، وقبيل الخروج من عنده وإذا بالباب تطرق فإذا بأحد المؤمنين حامل بين يديه وجبة إفطار لسماحة السيد، وعند خروجنا من عنده ناولنا تلك الوجبة فرفضنا أخذها منه، وبعد إلحاح كبير منه ما كان منا إلا أن نأخذها ونحن في خجل كبير من ذلك الخلق الرفيع.
وبعد هذه العبقات من حياة سماحته لعل سأل يسائل كيف هو عظيم؟ وكيف مجهول قدره؟
الشق الأول من السؤال قد أجبنا عليه من خلال ما سردنا من قصص تناولت بعض الجوانب الأخلاقية من حياته المباركة.
أما الجواب على الشق الثاني فهذا يحتاج ربما إلى صفحات أكثر من هذه الصفحات ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله.
فنقول في الجواب :على ذلك الشق أن من دلائل جهل القدر والمنزلة لسماحته هي هذه الضجة الإعلامية التي ما كانت تحدث لو أن السيد المقدس ما زال بين ظهرانينا، فهل كنا نحتاج لمثل هذه الفاجعة حتى نلتفت أن وليا من أولياء وعظيم من عظماء هذه الأمة يعيش بيننا؟
ثانيا: كتابة هذه الفلاشات الخاطفة بعد وفاته أيضا من دلائل جهل القدر والمنزلة، لماذا أخفيت هذه الذكريات وغيرها في حياته فإذا بنا نتحدث بها بعد وفاته؟
ثالثا: سماحته كان قريب المسافة منا عندما كان في الكويت فكم منا ذهب للكويت للاستفادة من علمه والتعلم من عظيم أخلاقه؟
رابعا: من أعظم مصاديق جهل منزلة هذا الرجل وقدره هو أن ترى البعض قد ثارت ثائرته على ما كتب أو قيل ونشر في حق هذا الرجل العظيم وكأنه قد عقم هذا البيت من إنجاب العظماء والفضلاء وأنه لا يحق لهم مما يحق لغيرهم من إجلال عظمائهم وتقدير فضائلهم.
ولولا الخوف من الإطالة لما اكتفيت بما ذكر أعلاه من تلك النفحات النورانية التي تهدي القلب وتغذي الروح.