مذكرات أمل (2)
في هذه اللحظة جاءت الطبيبة وقالت: الحمد لله على السلامة، أريد أن أخبركم أن المولودة تعاني من حالة مرضية تسمى الصلب المشقوق...
نظرت أمي إليها ودموعها على خذيها ...
بدأت الطبيبة تشرح الحالة المرضية الصلب المشقوق هو نوع من عيوب الأنبوب العصبي، يحدث في أي مكان على العامود الفقري (1)، وقد لاحظنا تكونه أثناء فترة الحمل.
والآن علينا أن نكمل بقية الإجراءات العلاجية للطفلة.
سألها أبي أي إجراءات تقصدين؟!
قالت الطبيبة: بعد ولادة الطفل المصاب بالصلب المشقوق فإنه يحتاج إلى تدخل من المجموعة العلاجية كلاً في مجاله، فجراح الأعصاب سيقوم بإغلاق الفتحة الموجودة وقد يحتاج لعمل التوصيلة في حالات الاستسقاء الدماغي، كما سيقوم جراح المسالك البولية بتقييم حالة المثانة والجهاز البولي، ويقوم طبيب الأطفال بتقييم الحالة الصحية العامة للطفل.
توقفت الطبيبة وبعدها قالت: لابد أن تعرفا أنه قد يحدث للطفلة شلل كلي أو جزئي للساقين.
لم تستطع أمي الكلام عند سماعها كلمة (شلل)...
قال أبي: الحمد لله على كل حال ...
قال الطبيب علينا أن نسرع بإجراء العملية، فكلما تأخرنا في إجراء العملية قد يزداد الوضع سوءاً، وربما يتوفى المولود..
وأكمل الطبيب كلامه: الحمد لله لدينا فريق طبي ذو كفاءة طبية عالية.
نظر أبي لأمي وقال: كوني مؤمنة ستكون الأمور إلى خير ...
ثم قال أبي: توكلت على الله، أين هي أوراق العملية لأوقع عليها؟
أدخلت غرفة العمليات.
لم تتوقف دموع أمي ...
بعد مضي ساعتين، قالت أمي لقد تأخروا...
أجابها أبي: العملية ليست سهله كما أخبرني الطبيب...
بقي أبي صامتاً، ولكن في داخله صراع من الأفكار، ماذا سيحدث بعد العملية؟! كيف ستتقبل أم خالد الطفلة وهي بهذه الحالة؟!
كم هي صعبة علينا لحظات الانتظار، إنها أصعب اللحظات التي تمر بنا في الحياة إنها تعصف بأفكارنا وتدخلنا في عالم المجهول الذي لا نعلم عنه شيء، إنها لحظات قاسية تخنقنا ...
نظر أبي لساعته، صار يخاطب نفسه: لماذا هذا البطء في الوقت، هل أصاب عقارب الساعة الشلل، ولذا فهي لا تتحرك...
في هذه الأثناء سمع أبي أذان المغرب...
نظر لأمي وقال: سأذهب للصلاة وأعود إليك ...
بعد الصلاة، أخذ أبي المصحف وفتحه، قرأ الآيات ... دمعت عيناه ، سجد لله شكراً، وقال هذه البشارة ، الحمد لله رب العالمين ...
أخذ المصحف معه وتوجه لغرفة أمي، فتح الباب وهو مبتسم وآثار الدموع على خديه...
قالت لا أفهم دموع وابتسامة ... فقال سأقرأ عليك الآيات وعليك أن تتدبري فيها:
بدأ أبي بالقراءة حتى وصل إلى قوله تعالى:"فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)" القصص/13
هدأت أمي وقالت الحمد لله...
قال أبي: سأسميها أمل ...
قالت أمي: اسم تفاؤل ... نعم ليكن اسمها أمل ...
أخيراً خرج الطبيب.. كانا مستعدين لهذه اللحظة، الوجوه مصفرّة، الأيدي مرتبكة، العيون مترقبة...
ابتسم وقال: الحمد لله تم إجراء العملية وتم إغلاق الفتحة في الظهر، وتم تركيب جهاز شنط (shunt) (تحويلة) في الدماغ لتصريف السائل الدماغي الشوكي للبطن.
ثم أكمل حديثه: لقد قمنا بعملنا، ونسأل الله أن يكلل عملنا بالنجاح..
قال أبي: شكراً لكم، لقد بذلتم ما بوسعكم، ونسأل الله تعالى لها الشفاء العاجل.
قال الطبيب طبعاً سوف ننقلها للعناية المركزة وستبقى معنا شهراً كاملاً، للمتابعة والاطمئنان على العملية ...
في اليوم التالي خرجت أمي من المستشفى بعد أن ألقت عليّ نظرة، وقالت اللهم إني أستودعتك صحتها وعافيتها ربي أستودعك إياها بكل ما فيها يا الله ومن كل ألم يصيب جسدها، فأحفظها يا من لا تضيع ودائعه ...
وصلا البيت وكان في انتظارهما جدتي وأخواي خالد وسالم، اللذين احتضنا أمي بكل فرح وقالا الحمد لله على السلامة، اين هي أختنا؟!
كانت جدتي تعلم بحالتي لذلك لم تسأل والداي عني، واكتفت بقول الحمد لله على السلامة يا أم خالد.
قبلتها أمي على رأسها وقالت: الله يسلمك ويحفظك ...
قال خالد: اين هي أختنا؟!
قال سالم: هل هي في السيارة؟!
سقطت دموع أمي...
قال أبي: إن أختكم بالمستشفى ستبقى هناك بضعة أيام ثم ستخرج إلينا وهي بصحة وعافية ... لا تقلقا عليها... سنذهب لزيارتها غدا ... بل كل يوم ...
قالت أمي: نعم سنذهب معكما غدا ... لرؤية أمل الجميلة ...
صاح خالد: أه هل أسميتها أمل ... اسم جميل ...
قال سالم: أنا متشوق لرؤيتها ....
قالت جدتي: اللهم أنبتها نباتاً حسناً واجعلها قرة عين لوالديها واحفظها وبارك لهم فيها واجعلها من أهل الصلاح والتقوى.
في اليوم الثاني جاءت عائلتي لزيارتي في العناية المركزة ... نظرت إليّ أمي وأشرق وجهها فرحاً ... وقالت الحمد لله...
ابتسم أبي ...
جاء خالد وسالم وصارا ينظرا إليّ، وأمي تراقب نظراتهما وهي تترقب ماذا سيقولان؟
قالا: أمي إن أمل أجمل منا ...
سقطت دموع أمي واحتضنتهما ...
صارت عائلتي تزورني كل يوم ...
وفي يوم الخميس دخل أبي البيت وقال أين الراديو ... أين الراديو؟
همسة أمل
فالغصنُ يُنبِتُ غصنًا حين نقطعهُ واللًيل ينجبُ صبحًا حين يكتملُ ستمطرُ الأرضُ يومًا رغم شُحَّتها ومن بطون المآسي يولدُ الأملُ.
تابعوا معنا بقية القصة
