يحاكون ضوء النجوم
عظماء يفدون على الدنيا وما بهم لها من حاجة.. غير أنهم في سمائنا يحاكون ضوء النجوم.
وقف شهر رجب سيداً على الشهور ولا زالت في جوانبه تتردد أصداء المولد الشريف كما وقف الثالث عشر منه مفاخراً على سائر الأيام.. وازدادت الكعبة بشرفها شرفاً وعزاً أن يولد فيها سيد الوصيين وأخو خير المرسلين والذي كان ميلاده إيذاناً بعبادة الله فيها.
وهذا التاريخ حين نعود إليه ونلقي نظرة على ما حوته الذكرى بين فصوله يتنفس ويقص لنا حكاية هذا الميلاد العظيم الذي بزغت أنواره في الكعبة عندما طافت فاطمة بنت أسد حولها، أدركها الطلق فانفرجت لها جدران الكعبة حتى وضعت «علي» وكان لميلاده فيها شأناً آخر ستروي فصوله الأيام.
سيدي.. اسمح لي بدخول محرابك بكل رهبة مطأطئة الرأس احتراما وإجلالاً لشخصك العظيم المعاني والذي عنى وجوده امتداداً للإيمان.. واسمح لي بمخاطبتك رغم ضاءلت كلماتي وقُصورها في حقك، لكن عذري فيها أنها جاءت تعبر عن ولاء وحب لشخصك، فاعذرني إن كبوت سيدي فمنكم يُقبل العذر.
ظل اسمك «علي» في أمجد صفحات التاريخ علماً عظيماً يرفرف وقطباً ارتكز عليه الإسلام حين انتشر.. حار فيك الزمان سيدي وأدهشت شخصيتك شعوبه المختلفة وبالرغم من كل ما أصابك فقد وقفت كالطود في وجهه.. سفينة لم تكسر الريح أشرعتها.
لم تبتدئ بغير الفطرة.. وحين شببت عن الطوق وافتلّت سواعدك نذرتها لراية حق استظلت بجهاد «محمد»، وطوت نفسك الكريمة صبراً ونصراً وعلماً وإدراكا وفهماً حتى صرت باب مدينة العلم لا يتأتى ولوجها بغيرك.
وعبر تفاصيل الأيام وانحناءات الزمن لم يرتبط شهر رجب بشيء قدر ارتباطه باسمك.. فميلادك تستقبله ترانيم الترحاب والكعبة لا زالت تذكر تلك اللحظات حين توضأ وجه الدنيا بسكون التسبيح والتهليل، فوقف الكون كله معطراً بأناشيد الفرح، وتنفست الأرض سعيدة مستبشرة لقدومك، واغتسلت مكة بفرحها لحظة أن بدأت الشمس ترسل بحياء وخجل الأشعة الدافئة فوق جبالها ساعة ميلادك.. وهذا وجه الرسول انطلق معبراً بميلادك الميمون عن حبوره.. وستنشأ يا «علي» في ظلال نبوته والملائكة من حولك تغدو مطمئنة وستكون له أخاً ووزيراً وسيفاً حين يرسل رحمة للعالمين.
عرفناك سيدي.. كما عرفتك بدر وخيبر وأحد ببسالة ومن قبلهم ليلة الفداء والمبيت في فراش النبي.. تعرفك يا «علي» سياط الحر والضجر حين كنت وسطها تصلي ووجه كالح تلَّوح بالعطش، يحمل في قلبه همَّ أفواه أخرى تنتظر برجفة سد جوعها، بينما ترسم خطواته العارية ترددها حين تقترب من جموع المصلين بوجل.. تتصفح ملامح وجوههم تبحث بينهم عن قلب يترحم بحالها لكنها لا تجد غير أصداء الصمت تجوس المكان!!..
كنت راكعاً حين أشرت له بخاتمك ولم تمنعك العبادة من عبادة أخرى تؤديها إرضاء لله ففزت بها ﴿ إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ﴾[1] .
عرفك المساكين والمحرومين والمعدمين كما عرفتك صناديد قريش في الحروب.. وتلك المرأة صاحبة الأيتام تشهد والأرض والسماء وسورة الزلزلة وبراءة وهل أتى تشهد وبطولتك وبسالتك وصلاتك وأنينك في جوف الليل يشهد.. وصراخ طفلة في منتصف ليل الجوع حين أطعمتها وآمنت روعها يشهد.
مولاي.. أيها العائد من حصون خصومك المتهدمة بعد أن تمادوا في أخطائهم وماتت ضمائرهم وتصوروا لفرط جهلهم أنهم يدرسون اسمك ويمحون أثرك حين اغتصبوا حقك واعتدوا على إرثك معلنين فوق المنابر سبك، وما دروا أن الزمان رغم أنفهم سيرفع اسمك ويحيي ذكرك ولو كانوا كارهين.. تجاهلتهم أنت حين نظرت بعيداً ومضيت في طريقك مطمئناً بوعد ربك رغم أن ألماً عميقاً يكتنف روحك الطاهرة.. نكت الأرض بعصاك وأبديت لها سرك، وقلت لها مخاطباً بأنها «مهما تنبت فذاك النبت من بذرك».
ومع اقتحام الفتن وتكالبها عليك فأنت لم تقف حيالها ساكناً فقد حاولت بترها لكنها نمت حولك متسلقة كطحالب مقززة.. لم تفشل سيدي فقد عجنت فخارهم لكن الريح الصفراء قد تسربت من بين شقوق نفوسهم العفنة التي اختارت التراجع عن خطك..!!
ما أكثر الأكاذيب المتطاولة بجرأة على صفحات التاريخ التي نعبرها فيشي لنا الزمن بملامحها الآثمة!.. وكما تضرب الأمواج العاتية في الصخور فتقف هذه في وجهها صامدة.. كنت أنت واقفاً بثبات لم تزعزعك الريح ولا هديرها الصاخب «أمة مستقلة بذاتها، تحكي عن عقلية الدهر وتعبر عن نضج الزمن».
انتقشت في كيانك آثار الزحام وحول البئر سيدي تتزاحم المناكب ويطول الانتظار.. ثبَّت أعمدة الإسلام ورفعت راية الحق وبرغم كل ما قدمت وحمل عاتقك للإسلام والدين فإن اللعن كان جزاءاً سقيماً كافأتك به الأمة المترنحة.. لقد حاولوا طمس اسمك فما قدروا وتعتيم ذكرك فما أفلحوا.. وفيك يا صنو النبي كانوا مؤلهين كما فيك محبين!!، لكن الحقد لم ينصر قضاياهم وإن انتصروا بالبغي فقد اقتصت لك الأيام بعد حين وأصبح أسمك يتردد في أصداء الأذان - عذراً يقدمه لك الموالين -.. فمضت الدول والقرون وما زال مجدك في سماء الكون يتعالى، وهذه سنة الله لنصر أولياء الدين.
ما ذا أقول سيدي..
يا من رُدت له الشمس بعد غياب.. لم تسجد لصنم قط.. أخ النبي ووصيه وزوج ابنته الزهراء فاطم وأبو الحسنين.. وعن شجاعتك في الحروب فأنت أسدها.. وعن بلاغتك فقد امتلأت شمس الخافقين بالحيرة والدهشة لها.. صدَّقت رسول الله وفديته بنفسك وقاتلت على التأويل كما قاتل على التنزيل.. وكنت الشجاع والغالب والممتلئ بالثقة والعزة حتى شهد أعدائك رغماً عنهم صاغرين بفضائلك التي لم يتعارك حولها اثنان فقالوا«أزهد الناس في الدنيا علي»!
ولقصتك مع الزهد حكاية أخرى تعرفها الدنيا حين أقبلت عليك بزينتها ترفل واعدة لك بالملك الدائم فنبذتها معرضاً عنها «يا دنيا غري غيري.. غري غيري»، فرجعت من عندك داحرة صاغرة تجر وراءها ذيول الخيبة محملة بالخزي متوعدة لك بطول البلاء.. وقد وفت لك بما وعدت!!.
أقحموك يا«علي» بين المشاكل وعصفت ببابك العواصف فهزَّ دويها أسماع الزمن.. حتى سئِمتَ حواشي نفوسهم العفنة فأعرضت عنهم حاملاً وجعك فوق صدرك وركعت في محرابك تستغفر ربك.
تجاوزتْ الذكرى كل هذه الآلاف المؤلفة من السنين الغابرة التي حملتَ فيها وجعك وكانت آهاتك وأناتك تحكي مواجع لا تحصى في داخلك.. ثم رحلت وتركتهم مفجوعاً بمصائرهم التي اختاروها.. وعرفوا فيما بعد لماذا كنت تترقب ليلة القدر..
وبعد كل هذا.. أفلا تنحني الرؤوس احتراماً وإجلالاً مطأطئة لحب «علي»..!!
نعم يا وليد الكعبة.. بدايتك الطاهرة في المحراب ونهايتك الشريفة في المحراب وبين هذا وذا.. لم تتوسد شيئاً غير التراب