الحسين تجسيد عميق للدين في ثلاث مفردات مهمة
إن الحسين مصباح الهدى، وسفينة النجاة، وحبل الله في الأرض المتصل بالسماء، فهو الإمام المعصوم الذي يجسم القيم، -وباختلاف الظروف- فهو البحر المملوء بصيرة وحكمة وهو الكتاب المليء بين دفتيه دروساً وعبر.
لقد تصرمت ذكرى مولده الشريف، وما يهمنا في هذه المناسبة.. ليس استعراضاً تاريخياً تقليدياً -وهو إما فرحة عارمة بمولده ، أو حزناً عميقاً عاطفياً بحتاً على استشهاده في نهاية مأساوية- إنما هي وقفة تأمل وتعلم وتطبيق، واستلهام الدروس من حياة هذا المصلح الإجتماعي التي امتدت ستةً وخمسين عاماً. حياة الإمام الحسين بستان مليء بالقيم النبيلة والمعاني الإسلامية الأصيلة، نقتطف منها ثلاث مفردات مهمة: العمل، التضحية، الثبات والإستقامة.
- الحسين ... العمل
من أكبر معوقات التقدم في الأمة الإسلامية هو بعدها عن العمل واكتفاءها بالتنظير. وبمعنى آخر، وجود فجوة في السلوك الإيماني بين القول والفعل، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه المشكلة في مطلع سورة المؤمنون حين قال: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ -كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ ﴾[1] . وفي السلم الإيماني، يُعد العمل وتطبيق مانؤمن به من مباديء درجةً متقدمةً على مجرد المعرفة والإعتقاد ﴿ لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾[2] .
وخلاصة القول: أن الأمة الإسلامية بأمس الحاجة إلى رفع شعار «العمل بصمت»، وتجاوز حالة الخمول والتقاعس، كما يجب على أفرادها الكف عن بث الإشاعات بين صفوف العاملين النشطين، ومحاولة إبراز الذات عن طريق إسقاط الآخر والنقد الهدام للآخر، إنما الحياة ميدان مفتوح للعمل ﴿ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾[3] .
- الحسين ... التضحية
ربما عبر العمل عن حالة إيجابية في الأمة، ولكن لكي نعرف مصداقية العمل من عدمه، ومدى صدق وإخلاص من يقف خلفه وينادي به، دعونا نتيح المجال للحياة الدنيا «الصعبة» لكي تلعب لعبتها، وتتقلب في أحوالها، فتصيب ذلك العامل بـِ«امتحان» شرط من شروط نجاحه هو «التضحية» من أجل استمرار ذلك العمل، سواءاً بالوقت أو المال أو غيره، وكثير هو من يسقط في مثل هذه الظروف، وقد أشار القرآن الكريم إلى مثل هذه الحالة حينما ضرب المثل التالي: ﴿ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾[4] .
إذن...لابد من التضحية بأنفسنا وراحتها ووقتها الثمين المخصص للراحة والنوم، ومالنا الذي يصرف على الكماليات، وذلك لكي يثمر العمل نتائجه القصوى، والذي عبر عنه البري عزوجل بالفوز العظيم: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ- تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ - يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾[5] . وكعاملين في المجتمع، لا ينبغي لنا أن نتصور أن الوصول إلى هدفنا –المشروع- مفروش بالورد والرياحين، ولنا في أبي عبد الله الحسين قدوة وأسوة، فما كان الإسلام ليصل إلينا بهذا النقاء لولا التضحيات الجسام التي قدمها وأهل بيته وأصحابه يوم الطف.
- الحسين ... الثبات
هنا ننتقل إلى المرحلة الأسمى، حيث أنه في البداية ميّز سبحانه وتعالى من يعمل على من لايعمل. وفي فئة العاملين كذلك، ميّز تبارك وتعالى بين من يعمل ويضحي وبين من يعمل ولايضحي ﴿ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾[6] :﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ - كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ ﴾[7] . أما بالنسبة للمضحين، فمن أجل نيل النتيجة الفضلى طالبهم بالصبر على التضحية والإستعانة بالله من أجل نيل ثمرة الفلاح: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾[8] ، والتي عبر سبحانه عنها –أي الفلاح- في آية أخرى بنتيجتين هما: النصر والغلبة والحكم في الدنيا، والعاقبة الحسنة في الآخرة: ﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ - قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾[9] .
وفي مجتمعنا القطيفي، لمسنا هذه المشكلة بوضوح، فما بين عالم دين وآخر متدين، خرج الكثير منهم عن خطه الأصيل إلى مسار آخر ضبابي تُثار حوله الشبهة وعلامات الإستفهام، وذلك لعدم قدرته على الثبات «الإستمرار في التضحية»، ففضل الخروج إلى حيث لا تعبَ ولا نصب، ولامواجهةً لا لِطاغية ولا للمجتمع!
اللهم ثبتني على دينك ما أحييتني، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمةً إنك أنت الوهاب، مع الحسين وأبيه، وجده وأمه وأخيه، والتسعة المعصومين بنيه، إنك سميع مجيب..