العمل.. أم الفراغ ؟!

كما غيره في الغالب  من الموضوعات، الحديث يكون متشعباً – فالحديث عن العمل يطول والكلام قد يكون في البحث عنه والفرص التي تمر وقد لاتسنح الفرصة لمرورها وكذلك يتطلب الحديث في هذا الموضوع عن روح التفاؤل والجد في الحصول عليه أوالتكاسل والتواكل ومسألة اليد العاملة ومدى قابليتها لنوعية العمل الحاصلة عليه .

 ولماذا تم اختيار العمل لحديث عنه (لأن العمل هو المصدر الوحيد لعمران الأرض واستخراج كنوزها والوسيلة الأولى لضمان معيشة الإنسان واستقرار حياته فلولا سعي الإنسان لتحصيل معيشته لما أمكن أن يبقى حياً على وجه الأرض)[1] .

ومن أجل هذا أكد الإسلام العزيز أيما تأكيد على العمل وحث عليه وطلب من الإنسان الجد في تحصيله والسعي له – سواء في القران الكريم أو في السنة النبوية المطهرة.

فقد ورد في القران الكريم (360) آية تحث على العمل [2] . والدعوة إليه سواء أكان العمل المعنوي العبادي أو العمل الجسدي الحركي- ومن الآيات التي تشير إلى المعنى الثاني قوله جل شأنه –( فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور)[3] .

فهذه آية منه سبحانه للطلب الرزق للعباد وقد ذلل ذلك وأباحه لهم [4] .

وكذلك قوله تعالى (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون)[5] .وأيضاً هذه الآية الشريفة فيها حث واضح على طلب الكد والرزق والعمل.

من هذا المطلق الإسلامي في الحث على طلب العمل ينبغي لنا البحث عنه والمشقة في تحصيله لمّا لذلك من الفضل أولاً ، ولمّا له من الستر الاجتماعي وحفظ ماء الوجه – والبعد عن التحذير من مغبة أن أتكل على غيري ثانياً ، فلو انتظرت غيري ليضع اللقمة في فمي لحدا بي ذلك إلى التكاسل والتواكل ، وهذا كما هو معلوم مذموم من جهة اجتماعية وشرعية – يقول أبو جعفر :- ( إني أجدني أمقت الرجل يتعذر عليه المكاسب فيستلقي على قفاه ويقول : اللهم ارزقني ويدع أن ينتشر في الأرض ويتلمس من فضل الله والذرة تخرج من جحرها تلتمس رزقها)[6] .
هذا من جهة التكاسل والتواكل عموماً ، أما مسألة الاتكال على الغير والإلغاء بكله على الناس – فعن أبي عبدا لله ( قال : قال الرسول الأعظم ملعون ملعون من ألغى كله على الناس ، ملعون ملعون من ضيع من يعول)[7] .

ونأتي إلى الجهة الاجتماعية ونسأل – ونقول أين الأفضل لي أن أحاول العمل ولو بشيء يسير وقدر الاستطاعة أم أقف استعطي الناس... وهذا بالنسبة إلى من يرى في نفسه أنه غير قادر على العمل وهو واقعاً يستطيع !! .. طبعاً الإجابة مستقاة من الحديث الشريف سلفاً.  

ونأتي لمن يستطيع العمل بكل طاقته وحيويته ونشاطه – ومع ذلك يتهرب من العمل ! لماذا؟
أحياناً بحجج واهية وغريبة.. وإذا سألته لماذا لاتعمل ؟.. ماذا ستكون الإجابة ؟

الإجابة تنم واقعاً عن حب التكاسل كما مر .
فربما يقول والشاب بالذات أحياناً أن الراتب غير كافٍ (1500ريال مثلاً ). ونحن نسأل هل حصل على أكثر منها حتى يرفضها ، وكأنه لايعلم أن البركة في القليل – ولأن المسألة في صرفك أنت ومحافظتك على المبلغ لا في قلته وكثرته وفي حاجياتك أنت لهذا المبلغ وكيف تتعامل معه .

وقد يتكلم متكلم فيقول الشباب وغيرهم يأنون من البطالة وأنت تتحدث عن العمل – وواقع الأمر لو فتشنا عن أسباب البطالة لأدركنا أن السبب لايرجع إلى رب العمل نفسه فحسب بل أن بعض الأسباب ترجع إلى طالب العمل في بعض الأحيان ، فمن الأسباب التي يتسبب فيها وبذات إذا كانت شركة أهلية أو ماأشبه – فأنه يتهرب من توظيف السعودي بحجة أنه سيأخذ راتب أكثر فيلجئ إلى توظيف الأجنبي براتب أقل ويوفر لنفسه
البقية.

وأحياناً يكون طالب العمل أو الوظيفة هو السبب ويضع لنفسه العراقيل من حيث يشعر أو لايشعر- فأنه يريد راتب مميز عن الأجنبي وماهية عمل مختلفة كذلك وقرب من المنزل .. وإذا لم يتوفر كل هذا فحتى لو توفرت وظيفة أنسحب منها.

وقد يقال أنك ربما تكون موظف ولا تشعر بما يقع فيه هؤلاء من ضائقة مالية وأقول نعم صحيح(أنا ) موظف ولكن قد جربنا ما يمر به هؤلاء الشباب – ولكن الحمد لله تعاملنا في تلك الفترة مع تلك الأموال بما ينبغي واستطعنا استثمارها والآن نرى الفرق بين القليل والكثير, فكنا سابقاً نستلم من الجامعة في أيام الدراسة مكافئة تقدر ب(850) ريال فقط ، وكنا نصرف منها ماشاء الله ونعطي من نعطي ويبقى الفائض ندخره للمستقبل ، وكذلك عملنا في محلات تجارية وأسواق بثمن بخس دراهم معدودة وتعيشنا منها بما هو كاف.

وأما عندما توظفنا وأخذنا الرواتب التي هي بالآلاف من الريالات – صرنا نستكثرها بعكس السابق كنا نرها قليلة فنحافظ عليها ونخشى أن تصرف بسرعة فتبقى وأما الرواتب نرها كثيرة فلا نخشى من الصرف فلا نشعر إلا وقد انتهت في أول الشهر.

فالقليل فيه البركة ، فلماذا أتحجج عن العمل بهذه الحجة أو حجة أن العمل بعيد وقد تغرب من تغرب وسافر من سافر عن البلد والوطن في سبيل العمل ولقمة العيش والتواكل لن يقدم شيئاً بعكس التوكل على الله سبحانه فإن السماء لن تمطر ذهباً ولافضة  مادمت جالس بين الحيطان ، يذكر الخطيب الاحسائي الكبير السيد محمد حسن الشخص (رحمه الله) هذه القصة الطريفة شاهد على موضوعنا (أن أحدهم كان متواكل فذهب إلى السوق ودخل إحدى المرافق وجمع أباريقها وأخذ يخاطب رب العباد سبحانه قائلاً ربي أريدك أن تملئها لي ذهباً بمجرد أن أغمض عيني ففعل وفتح عيناه ولم يجد شيئاً – فقال هذه المرة أريد فضة – وفعل أيضاً ولم يجد شيئاً – فقال إذاً هذه المرة مجرد قروش – وكذلك لم يجد شيئاً – فأخذه الغيظ وقال إذاً أريد كفاً على وجهي فإذا بالكف قد نزل سريعاً ففتح عينيه وإذا أحدهم ينهره ويقول له لماذا تأخذ الأباريق بجانبك وأنا أريد أن أقضي حاجتي )[8] .

فإذاً المسألة تتوقف على السعي وراء طلب العمل وليس التواكل والتقاعس. فلو قدر لي وحصلت على عمل.. فما هو المطلوب اتجاه هذا العمل ورب العمل ؟!وماهي ايجابيات العمل .. وهل هناك عمل مطلوب بعينه؟  

نعم لو حصلت على عمل فهذا خير من الله تعالى أشكره عليه ؟ فقد أصبحت من العاملين، فعليه لا أستحي من مزاولة أي عمل من شأنه أن يجعلني من الكادحين العاملين.

فهل من الصواب أن أشترط لابد أن يكون عملي على مكتب وفي مكان مكيف وفي الجو الفلاني وفي المكان الكذائي مثلاً . .. لماذا لانكون كبقية أكثر الجنسيات يعملون ويكدحون من أجل الحصول على لقمة العيش ، نعم رب قائل يقول أنا أريد مايناسب تقديري  ومؤهلي .. هنا شأن آخر. 
والكلام هنا مع من ليس لديه مؤهل ومع ذلك يريد راتب معين وطريقة معينة للعمل ومكان قريب وغير ذلك... وإلا؟!.

فعليك إن تنظر إلى إيجابيات العمل من جميع الجوانب لا إلى الجانب المادي فقط.

فهي ليست متوقفة عليه فهناك الايجابيات الاجتماعية من البعد عن العزلة وإثبات الوجود وهناك البعد النفسي من ملء الفراغ والبعد عن الكآبة والملل والضجر ورفع المعنويات وما شابه ذلك.

وأخيراً نبقى في التفاعل مع العمل وكيف أن الإنسان إذا عمل لابد أن يكون جاداً صادقاً معطاء في عمله- ومحباً له متفانياً فيه – وفوق هذا وذاك يحاول أن يكون متقناً فيه ولايتها ون لقوله ( إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه )[9] .

فقد أصبحت من العاملين والعامل له فضل من الله تعالى وجائزة ، فهو يعتبر كالمجاهد في سبيل الله تعالى يقول الإمام[10] ( الكاد على عياله من حلال كالمجاهد في سبيل الله)[11] .

فهل بعد كل هذا أقنع بالعمل ولو كان قليلاً من جهة مادية أم أظل عاطل عن العمل فارغاً وتتقاذفني الأهواء وسلبيات الفراغ من كل جانب – وحينئذ سينطبق عليه قول الشاعر:

أن الشباب والفراغ والجدة         مفسدة للمرء أي مفسدة.

[1] - حقوق العمل والعامل في الإسلام – سماحة الشيخ العلامة باقر شريف القرشي- ص67.
[2] - نفس المصدر ص143.
[3] - سورة الملك/ آية 15.
[4] - التفسير الكبير للفخر الرازي – ج3 ص19.
[5] - سورة الجمعة / آية 11.
[6] - من لايحضره الفقيه – ج3ص116.
[7] - الكافي – ج4ص15.
[8] - القصة مستقاة من إحدى محاضرات سماحة السيد محمد حسن الشخص الاحسائي (رحمه
الله) .
[9] – أحاديث في الدين والثقافة والمجتمع – الشيخ حسن موسى الصفار – ج2 ص232-
نقلاً عن كنز العمال للمتقي الهندي.
[10] - ورد هكذا في الأصل من دون ذكر اسم الإمام .
[11] - من لايحضره الفقيه – ج3 ص 124.