بيان سماحة المرجع الشيرازي دام ظله بمناسبة عاشوراء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين وصلى الله على خير الخلق أجمعين محمّد المصطفى وعترته الطاهرين
ولعنة الله على أعدائهم أعداء الله الى يوم الدين
ورد في الحديث القدسي عن الله تعالى ـ في زيارة عاشوراء ـ: «اللهم اجعلني عندك وجيهاً بالحسين عليه السلام في الدنيا والآخرة» (1)
عاشوراء الإمام الحسين عليه السلام: ثقافة وحضارة وتاريخ، ضمن مجموعة عظيمة من القيم.
أما الثقافة الحسينيّة فتكمن في الأهداف الرفيعة للإمام الحسين عليه السلام من قيامه ونهضته المباركة حيث ورد في الزيارة التي أمر الإمام الصادق عليه السلام أن يزار بها جدّه الإمام الحسين عليه السلام وهو يخاطب الله تعالى: «وبذل ـ أي الإمام الحسين عليه السلام ـ مهجته فيك لسيتنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة والشك والعمى والارتياب إلى باب الهدى من الرّدى» (2)
فإنقاذ عبادالله سبحانه، من جميع أنواع الضلالات والجهالات والشكوك والعمى والارتياب هو هدف الإمام الحسين عليه السلام من (نهضة عاشوراء).
وهذا لا يتحقق إلا بتعميم هذه الثقافة في الأرض كلّها حتى يسعد الجميع بالإيمان الصحيح والعمل الصالح والأخلاق الفاضلة والمجتمع النموذجي والإدارة الحكيمة.
وقد ظهرت بوادر ذلك أكثر من ذي قبل في القعود الخمسة الأخيرة في كثير من بلدان العالم ببركة مجالس الإمام الحسين عليه السلام وشعائره، نتيجة انتشار حَمَلة هذه الثقافة الإلهية ـ اختياراً واضطراراً ـ في جميع القارات.
وفي كل زمان تتواتر الأخبار عن المشاهدات العينيّة لاقامة الشعائر والمجالس الحسينية في شتى بقاع العالم حتى المناطق المتجمدة القريبة من القطب حيث درجة الحرارة تنخفض إلى العشرات تحت الصفر.
نعم: سيتحقق هذا الهدف كاملاً وفي كلّ مكان عند ظهور سيدنا ومولانا بقية الله من العترة الطاهرة الإمام المهدي عجل الله تعالي فرجه شريف ليملاء الأرض قسطاً وعدلاً، ومن القسط والعدل شعائر جده الإمام الحسين عليه السلام.
وأما الحضارة الحسينية: فتتجلى بوضوح ـ فيما تتجلى فيه ـ عبر منح الله تعالى للإمام الحسين عليه السلام من أجل عاشوراء وتضحيته العظيمة من اختصاصات كوّنت حضارة واسعة متواصلة في أبعاد متعددة، وهذه نماذج منها:
الأول: جعل الله سبحانه وتعالى، الأئمة التسعة المعصومين عليهم السلام بعد الإمام الحسين عليه السلام من صلبه:
فالإمام السجاد صاحب «الصحيفة السجادية» زبور آل محمد صلى الله عليه و آله من صلب الإمام الحسين عليه السلام.
والإمامان محمد بن علي الباقر وجعفر بن محمد الصادق عليهم السلام: ناشرا علوم السماء في الأرض هما من صلب الإمام الحسين عليه السلام.
والإمام موسى بن جعفر الكاظم عليهما السلام: الذي كشف زيف السلطة العباسية في أوج سطوتها وغطرستها هو من صلب الإمام الحسين عليه السلام.
والإمام علي بن موسى الرضا عليهما السلام: ـ عالم آل محمد صلى الله عليه و آله كما وصفه جدّه الإمام الصادق عليه السلام والذي حاجج وأفحم فطاحل علماء الأديان المختلفة في وقت وأحد وأثبت زيف معتقداتهم وأعلى بذلك كلمة الإسلام ـ هو من صلب الإمام الحسين عليه السلام.
والإمام محمد بن علي الجواد عليهما السلام: ـ الذي واجه مشكلة مستعصية في الأمة وانتشلها منها إلى الإيمان الخالص، وقد فسر بذلك الحديث الشريف عن أبيه الإمام الرضاعليه السلام في ولادته قائلاً: «هذا المولود الذي لم يولد مولود أعظم بركة على شيعتنا منه» (3) ـ هو من صلب الإمام الحسين عليه السلام.
والإمام علي بن محمد الهادي عليهما السلام: ـ الذي أنقذ الأمة الإسلامية من طاغوت ظلوم ملئ البلاد الشرور، والعباد المظالم وتفنّن في إحداث أنواع التعذيب والتنكيل والذي ذكره الإمام الميرالمؤمنين عليه السلام في خطبة له فوصفه بـ (أكفر بني العباس) وهو المتوكل العباسي فدعى عليه الإمام عليه السلام وقرأ هذه الآية الكريمة: « تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ » (4) فقتل المتوكل بعد ثلاثة أيام ـ هو من صلب الإمام الحسين عليه السلام.
والإمام الحسن بن علي العسكري عليهما السلام: ـ الذي أنقذ المسلمين من خداع علماء النصارى في قضية الاستسقاء الشهيرة (5) ومن الفيلسوف المعروف «الكندي» في كتابه «تناقض القرآن» (6) كما مهّد لأكبر إنعطافة: من عهد حضور الإمام المعصوم إلى عهد غيبته ـ هو من صلب الإمام الحسين عليه السلام.
والإمام المهدي الحجة بن الحسن، الموعود المنتظر صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف ـ الذي بيُمنه رُزِق الورى وبوجوده ثبتت الأرض والسماءـ هو من صلب الإمام الحسين عليه السلام.
الثاني: الأرض التي تدوسها الأقدام جُعلت في مقتل الإمام الحسين عليه السلام مقدّسة حتى جعل الله تعالى السجود عليها سبباً لارتفاع الصلاة وقبولها وتتخذ شفاءً من كل داء، ففي الحديث الشريف: «السجود على طين قبر الحسين عليه السلام يخرق الحجب السبعة» (7) وفي حديث شريف آخر: «كل طين حرام.... إلا طين قبر الحسين عليه السلام فإن فيه شفاءاً من كل داء» (8)
الثالث: إنّ الله تعالى خصّ الإمام الحسين عليه السلام ـ فيما خصّه به من أجل تضحيته في سبيله ـ أن جعل استجابة الدعاء عند قبره، ففي الحديث الشريف أن الإمام الصادق عليه السلام أصابه ألمٌ فأمر من عنده أن يستأجروا له أجيراً يدعو له عند قبر الحسين عليه السلام(9)
وأما التاريخ الحسيني عليه السلام: فمن المؤكد أنه لايوجد تاريخ حافل مثل تاريخ الحسين عليه السلام: ـ
فمنذ أن استشهد الإمام الحسين عليه السلام وحتى اليوم ـ قرابة أربعة عشر قرناً ـ والملايين ... والملايين يهتدون بسبب الإمام الحسين عليه السلام وفي مجالسه وعلى أثر شعائره، وفي المقابل قد تلقّى الملايين... والملايين من زوّار الإمام الحسين عليه السلام والقائمين بشعائره والمقيمين لمجالسه ـ عبر هذا التاريخ الطويل ـ القسوة والتنكيل والتعذيب وشتى أنواع المظالم من طغاة التاريخ، بدءاً بطغاة بني امية ومروراً بطغاة بني العباس وحتى اليوم في العديد من بقاع العالم، وقد تضمّن التاريخ في هذا المجال الكثير والكثير مما يندى له جبين البشريّة، ومما ذكروا أن المتوكل العباسي أمر بضرب (نصر بن علي) ألف سوط نتيجة روايته حديثاً واحداً عن النبي صلى الله عليه و آله في فضل الإمام الحسين عليه السلام(10)، ومع هذا كلّه ترى الأرض ـ في كل القارات ـ تعج بمجالس وشعائر الإمام الحسين عليه السلام طوال السنة وبالأخص في أيام «عاشوراء».
وعلى الجميع في كلّ مكان ـ كل في مستواه ومجاله وقدرته ـ الاهتمام البالغ في الاحتفاظ بهذه الثقافة وهذه الحضارة وهذا التاريخ علّه يستجاب للجميع الدعاء المذكور في زيارة عاشوراء، فنكون ـ جميعاً ـ وجهاء عندالله تعالى في الدنيا والآخرة ببركة الإمام الحسين عليه السلام.
والله المسؤول أن يوفق الجميع للقيام بهذه المسئوليات الجليلات خير قيام بجاه محمد وآل محمد لا سيما ولي دم الإمام الحسين عليه السلام سيدنا ومولانا صاحب الأمر عجل الله تعالي فرجه الشريف.
صادق الشيرازي
1/محرم الحرام/1427 هجـ