كربلاءات حسينية و كربلاءات منبرية! (2-2)
ليس الإمام الحسين ع أسطورة، و إنما هو أنموذج يجب أن يُحتذى لتُرخص الأعمار كلما استشرى الفساد و شاعت الرذيلة و استحكم الشيطان. و أما نحن فربما أُدرجت لدينا قصت الحسين في رفوف الأساطير و أزيحت عن حلبة التطبيق، و ما ظل من تلك الثورة إلا قطرات دموع و منشفة و أمانِ من اللاوعي: (يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزا عظيما)، و جمودا عن الحركة المبادرة حتى نسبنا أنفسنا إليه دون أن نرخص رؤوسنا لتقطع ثمن الحقيقة و الفضيلة و الإيمان لنكون مع المبالين نحو إعداد الجماعة الصالحة. فأينك يا معظم لتقود ثورة العشق الإلهية؟ فو الله كما لم يجبك ها هناك أحد فإن صوت الروح و التقوى و الإيمان و المعنى قد بح دون مربي. إن أمة الرسول تحتاج مصلحا، و أما نحن فلا زلنا نتغنى على كلمات الإصلاح التي أطلقت على لسانك بألسنتنا دون أن ننصرك و نصلح الغلطة، و ننشئ جيلا ذا مواصفات عالية باستطاعته نصرك كما لم ينجح بنصرك الآلاف على هواهم إلا نيفا و سبعين منتصرا، نصرت الإصلاح بدمائك و لا ننصر الإصلاح لو بإعداد كوادره! شرطت التربية فقلت: (...و الدين لعق على ألسنتهم...)، و نتحدث عن الثقافة و الدين قد يلعق على ألسنتنا! فلا نصمد على البلاء بل قد يقل فينا حينه الديانون إذ لم نُعوّد أن نرخص الأرواح. إن أكثر الذين قتلوا الحسين و قطعوا رأسه و سبوا نساءه بكوه و نذبوه معولين، و لو عاد لعاد الكثيرون إلى قتله، فليس بكاؤنا على الحسين يضعنا في صف أنصاره و ملبيه أبدا و ليس يعصمنا عن قتله لو عاد.
إن رأس الإمام الحسين يُقطع في كل يوم ينتكس فيه مؤمن من أمة جده ص ساجدا للدنيا و ليس له على الشيطان من ناصر، و لعلنا نراقب قطع ذلك الرأس بهدوء. إن ذلك الرأس الشريف يُقطع كلما جَردت الرذيلة سيفها لتحز نحر الفضيلة لتعلقها على رماح الشياطين، ليراها كل قادر على نصرها معلقة بعدما قالت "أما من ناصر" ولكن قعد عن إجابتها الكثيرون. لو كان أبو الأحرار ع حيا لقاد ثورة الروح و المعنى و التحرير ضد كل حرامل الشيطان الحيوانية، و ضد كل تجاهل للمسؤولية التربوية، و لحدد تكليفه و قدم الأهم على المهم في سبيل التغيير، و لأخبر المساكين مزيدا عن جمال الله و قبح الشيطان، و لأنقد الفضيلة بعيدا عن مجرد حشو الوقت و ترجمة الهواية.
إن قضية الحسين ليست قضية ثقافة و لكنها قضية تربية و وجدان و روح، فإذا أردنا أن ننصف الإمام الحسين و ثورته فلا يجب إلا أن نعد جيلا حسينيا مستعدا في أي وقت أن يصنع ثورة حسينية جديدة. علينا أن نصلح الشباب و الأجيال و ألا نهملهم و أن نهتم بمشاكلهم في عاشوراء الحسين علينا ألا نتجاهل الثورة المعنوية الروحية لنركز على ما غمسنا أنفسنا فيه من قشور الدين الفقهية و الثقافية. علينا أن نذيق الناس طعم محبة الله عز و جل ليستلذون عبادته و يستطيبون فعل أوامره و ترك نواهيه. علينا أن نقدم مشروعا تربويا مركزا و متكاملا و أن نبدأ بإصلاح أنفسنا و تهذيبها، و أن نغوص في بحار العرفان العملي و النظري مهما بلغت صعوبة الطريق لأن هذا ما ينبغي علينا لو أردنا السير على نهج الإمام الحسين ع لنكون أحرارا في دنيانا و لا نكون عبيدا للدنيا فنكون من قتلته، فهل عبيد الدنيا إلا قتلته؟.
- الدين و الحسين و الحب، مذاقات عسلية!
ليس الخلل بسبب الشباب دائما! إننا الشباب نتألم من مارد الشهوات و المغريات و نحاول أن نعود و نحاول التجديف و لكن سيل الأمواج العاتية يحول دون نجاتنا، إلا أن يصنع أهل المنابر و أئمة المساجد و مدرسوا الدورات الدينية في قلوبنا سفنا و أشرعة أقوى من الطوافين العاتية. لماذا لا يتجهون في قراءاتهم و اهتماماتهم لتحسين الصورة التي يطرحون من خلالها الدين؟ لماذا لا يحببون الدين إلينا و يعزفوه من زواياه الوجدانية الحبلى بمشاعر الحب و العطف و الحنان الإلهي التي نحب نحن الشباب ألحان أوتارها؟ أيها المشايخ و السادة و العلماء و المدرسون أنتم تعلمون بأن ظروف الزواج قاهرة دون سن السنة الثالثة الجامعية على الأقل المشدد، فالموقف هو المقاومة إذن! ألستم تريدون منا أن نقاوم؟ فكيف يقاوم غير محصّن من دون بندقية أو قنبلة أو مدفع؟ أتريدون منا الانتحار أعزلين بلا سلاح و لا واق من الرصاص؟ لماذا تتركونا في مقاومة خاسرة بأجساد عارية؟ لماذا لا تحصنونا بتربياتكم و محفزاتكم و تذكيراتكم لنا بالله كلما استزلنا الشيطان و ضعفنا و كلما راودتنا المناسبات؟ و لماذا لا تصنعون في قلوبنا رادعا أن (معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي)، فما أكثر زليخات هذا الزمان و أشد تأثيرها و ما أكثر أبوابها المغلقة و المفتوحة، و ما أقل ما تعصمونا به من الحب داخل هذا الدين لتُصرف عنا الأسواء و الفحشاء. لماذا لا تفهمونا لماذا رمى الحسين ع نفسه في نار النمرود دون تردد لنحيا ما كان يحيا و لا نتردد في قرابين الله كما لم يتردد هو و أصحابه؟ لماذا لا تجعلونا نصبر بلذة على مغريات عصرنا بمعرفة متواضعة بالله؟ و لماذا نذهب دوما إلى منابركم و نعود دون تغير فينا نحو (لبيك يا حسين) بقلوبنا و أرواحنا و جوارحنا و أيامنا و سنيننا؟
لماذا تستمرون في توصيف و تفسير قشور الدين و ألوان الفواكه و مظاهرها الخارجية؟ أما آن لأهل موائدكم أن يقشروا فواكه الدين و كربلاءاته لينعموا بمذاقات الألباب؟ لماذا تركزون دائما على الفقه و العقائد بصورتهما السطحية الخالية من مذاقاتها الحقيقية الدينية العسلية اللذيذة؟ نحن بحاجة إلى خطابات أمير المؤمنين ع و تهذيبه و إرشاداته فهل مات علي ع؟ يا معشر الخطباء و العلماء و المدرسين أليس الدين إلا الحب؟ و منذ متى كان الفقه و الفكر و الثقافة عاصمين عن الانزلاق؟ فلو كانوا كذلك لكان أهل الكوفة أولى بعصمتهم! يا معشر الخطباء و العلماء و المدرسين لو أدرنا آلة الزمن إلى حين كربلاء و عاشوراء و استغاثات الحسين ع فهل نصمد أن نكون مع الإمام الحسين ع؟ إني لست مطمئنا أبدا من نفسي و أخاف أن أوضع في هذا البلاء، فلست إلى الآن إلا ذليلا خلط عبادة الله مع عبادة الشيطان و لست حرا في دنياي، فمن منكم يحررني إذ تخوفت على نفسي؟ فهل وُجد من يغيثني و إخوتي المراهقين و الشباب بعطاءاته و معنوياته؟
- مذاق عسلي!
يبدو أن هنالك طعما و مذاقا مميزا و لذيذا للدين لم تطلعونا أو ربما تطلعوا عليه. يبدو أن هنالك آفاقا و جماليات و مبادئ و معان محببة في هذا الدين و لكنكم تصرون على إهمالها. هل لنا أن نسأل من هو الله ليقدم الحسين ع من أجله كل هذه التضحيات؟ من هو الله ليتحمل الحسين ع فيه كل هذه العذابات؟ من هو الله ليخرج الحسين ع من أجله من مكة محرما بأهله و نسائه و عياله و أصحابه ليطوف حول جثامينهم بدلا من كعبة الله؟ و يسعى بين الجيوش العاتية بدلا من الصفا و المروة؟ و يقدم هديا مغلظا بدمه الشريف لأجل الله في كربلاء العشق بدلا من الشياة في منى؟ لماذا حل إحرامه عن الحج الاعتيادي إلى حج دموي أعظم قربانا و فداء و تلبية؟ لماذا قدم كل ذلك إلا أن يكون هنالك شيء غير اعتيادي و غريب يعلمه عن الله لا نعلمه نحن، جعله مجنونا في ذات الله ظل يقدم القرابين حتى قدم مهجته لأجل ربه.
لنصارح أنفسنا قليلا؛ لقد قدم الإمام الحسين ع حجا دمويا برضا و تلذذ، بينما نتكلف نحن و نضنى و نتذمر أن نقدم حجا اعتياديا بطواف اعتيادي و سعي اعتيادي و وقوف اعتيادي، و نألم لجهد بذلناه بأجسادنا و لا نفكر أنه بعين الله أو أن نعيّن جهدنا و نصبنا قربانا لله، أو أن نكون من الوجلين فلعل الله لا يقبل، و إنما نسعى بقدر الإمكان أن نحج حج الملوك و أن نخفف بالإمكان من قدر ما يُبذل، و أن نختزل الجهد إلى أقل ما يمكن، و رغم أننا لا نستحق أصلا قبول حجنا لما فرطنا و اقترفنا و أسأنا في جنب الله، و رغم أننا كنا طوال سنيننا غافلين عن حضرة الله عزوجل و لم نكن نوليه ما نحتاجه من الطاعة و الذكر، إلا أننا نسعى بقدر الإمكان أن نيسِّر القربان و نخففه متناسين أن لله أصلا المنة إذ سمح باسمه أن يجري على ألسنة عاصية، و سمح لأعين مجترئة أن تبكي عليه، و سمح لأيد مذنبة أن تمتد إليه بالدعاء، و سمح لجوارح لطالما عصته و أساءت أن تتحرك و تسير في ربوعه الملكوتية و تطوف حول كعبته و تقف في عرفاته و تسعى بين صفاته و مروته، و أما نحن فبرغم منّه و رحمته و تفضله و صفحه و تجاوزه فلا نفكر في حجنا إلا بلحظة الفراغ عن عبادته، و نتسابق في تخفيف الجهد و القربان و توفير الراحة و الاطمئنان، ثم نطمح بالمغفرة مع قلة استحقاق.
و أما غيرنا فلا أحلى عنده من أن يقدم أغلى ما يملك و يشكر الله أن سمح له أن يقدم قربانه، و أما نحن فما أضنى عندنا أن نقدم يسيرا مما نملك، ثم نقول "لبيك" و يقول الحسين ع "لبيك" فأي بون أضخم من البون بين تلبياتنا و تلبياته؟ إذ جفى أفئدتنا و أرواحنا حب الله و معرفته و لم تترسخ أشجار محبته في حدائق قلوبنا. و بعد ذلك! إذا استنصرنا الإمام الحسين ع فأي حجم لنصرته يريد؟ هل يريد أن نلبيه كما يلبي هو الله؟ و أنى لقلب جفّت من حب الله ينابيعه أن يلبي الحسين ع كتلبياته هو؟ إن الإمام الحسين لبى بدمائه لأن قلبه كان مفعما بالحكمة و المعرفة و الحب الإلهي، لا شك أن يلبي قلب كان يقول: (...إلهي كيف يُستدل عليك بما هو في كنهه مفتقر إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك؟ متى غبت حتى تحتاج إلى دليل، عميت عين لا تراك عليها رقيبا، و خسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيبا...). يا معشر العلماء خبرونا من هو الحسين ع و من هو الله لنحيا و نذوق نصف أو ثلث أو خمس ما يذوق الحسين ع عن الله، لنصبر عن محارم الله بلذة ما جعل الحسين ع يقدم أغلى ما يملك رخيصا لأجل الله.
نحن نريد أن نصبر و لكن عدونا قوي فلم لا تغلظون و تركزون على ما يشد أزرنا و يربط جأشنا؟ إذا كنتم أنتم أنفسكم نائمين عن مطالب الحب و مذاقات الدين و الحسين ع العسلية فما الذي يمنعكم أن تتوجهوا لدراستها و معرفتها و سبر أغوارها من خلال علوم العرفان و الوجدان التي تجدبنا و التي هي لب الدين؟ هل كان بدعا من الدين ما قاله زعيم الدين رسول الله محمد ص (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) و ما يُروى بأن (الدين المعاملة)؟ نحن نحتاج من الدين إلى تذوق مذاقاته العسلية التي ذاقها الإمام الحسين ع لنعشق هذا الدين و رب هذا الدين، لقد سئمنا ما تعكفون و تكتفون به من الدين لتلقنوننا إياه. أما عن الثقافة التي تخافون بها علينا أكثر من خوفكم من فساد أخلاقنا فعلمونا أن نصطاد بدلا من تصطادوا لنا إلى أبد الآبدين، أعطونا الروحية لنقرأ بدلا من أن تقرؤوا دائما عوضا عنا، فما كان لأيام معدودة عند منابركم أن تحول غير مثقف إلى مثقف!.
- من يصنع الحُر في زماننا؟
إننا نريد لما نضعف و نتقهقر إلى غير الله نذهب إلى المساجد و المنابر ليشحنونا من جديد و يعطوننا طاقة من الحياة و قوة تعيننا على منازلة الأعاصير منازلةَ الأبطال كما نازل الحر بن يزيد الرياحي هواه و صرعه، نتيجة حركات و سكنات معنوية حميمية حسينية عملية أضاءت له الطريق و أيقظت جرس قلبه عن غفلته، فنازل من بعد ذلك أعداء الله و أعداء الإنسانية و أعداء الحسين ع، حتى إذا ضعفنا من جديد عدنا إلى مساجدكم و منابركم من جديد لنُشحن من جديد لننازل من جديد بلسان حالنا: (...إلهي ماذا فقد من وجدك و ما الذي وجد من فقدك...) و لسان حالكم: (و ذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين). إذا أردتم أن تحلوا مشاكلنا و آفات العصبيات و الأنانيات و الأرضيات فاجعلوا ديدنكم روحيا معنويا! و إلا تفعلوا فلا فائدة من الاستغراق في أحكام الوضوء الاستحمامية و أفعال الصلاة الرياضية! لا فائدة من صلاة رياضية مفرغة عن جواهرها و ألبابها التي سرقت قلب علي بن أبي طالب عن كل ما حوله لما أزالوا عنه سهما علق بجسده بنما هو يصلي دون شعور، فإما أنا نحن مجانين و جهلاء و محرومون و إما أن يكون المعصوم كذلك!
فما الفرق يا إخوتي المشايخ و السادة و العلماء بين الصلاة الرياضية الظاهرية و بين التمارين السويدية لو نويناها قربة لله إلا أننا نسقط الواجب؟ فهل أن هدف الصلاة هو إسقاط الواجب أو أن هدفها أن تنهى عن الفحشاء و المنكر و تقيم في القلب ثورة لله؟ فما هو الشيء الغير طبيعي فيها الذي يجعلنا ننتهي عن الفحشاء و المنكر؟ و لماذا نقول في زيارة سيد الشهداء (....أشهد أنك أقمت الصلاة....)، فما هي الصلاة التي أقامها سيد الشهداء؟ إنا نتمنى لو نسمع منكم يوما تركيزا و تشديدا على غير مجرد إيصال ماء الوضوء إلى أطراف الأصابع و مكنونات الأظافر و حسب، و لكن أن تركزوا و تشددوا على أن يصل ماؤكم و ماء وضوئنا إلى بواطن القلوب و مكنونات الأفئدة و السرائر، و أن تركزوا لا على شكوك الصلاة و أفعالها و سلامة أقوالها و لكن على ألا يسهو أثناءها مؤديها عن من يؤديها إليه جهلا منه، و أن يعرف عظمة من يخاطب ليجيد المخاطبة بما يلائم ملكا عظيما و ربا رحيما، و أن يتصرف في بيت الملك كما قد يتصرف مع ملوك الدنيا الجبارين، فهل أن تصرفنا تصرف مسجدي في بيوت الله؟ و هل وعينا و أوعينا الناس كيف يخاطَب ملك خالق جبار عظيم متصرف هو منتهى و غاية آمال العارفين؟ و نكرر يا أهل المنابر و أئمة المساجد! لا جدوى من حقنة روحية واحدة دون تعداد لتكون رادعا لنا كلما ضعفنا!
إن ثمة مذاقات رائعة الطعم للدين جعلت الحسين ع يضحي من أجله بأعز ما يملك قائلا: (إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى) و إن هذا إلى رضاك قليل، جعلت الحسين ع يلتذ في جنب الله رغم أنه يألم جسديا، فكيف لمتألم جسديا أن يلتذ؟!! لماذا صبر الإمام الحسين على ألمه في ذات الله إعلاء للحق و كلماته و تطبيقه و لا نستطيع نحن أن نصبر عن آلامنا الشهوانية الداخلية النفسانية في ذات الله؟ لماذا عجزنا عن ما لم يعجز عما هو أعظم منه الغير معصوم مثل زهير بن القين؟ يا أهل المنابر و يا أئمة المساجد و يا مدرسي الدورات الدينية إلى متى سنظل معكم صائمين عن تذوق مذاقات الدين و الحسين و كربلاء و زين العابدين العسلية؟ أليس زماننا اليوم هو زمان زين العابدين ع و يتطلب وهجا روحيا؟ ألا تعللون توجه الإمام زين العابدين إلى التربية الروحية لكون زمانه يحتاج ذلك؟ فهل أن زماننا أقل بؤسا من زمانه إن لم يفقه بؤسا؟ إلى متى تصمون أسماعنا عما يلتذ به العارفون؟ لماذا لا تسبرون أغوار الحب و العذوبة الدينية التي تمثلت في (...إلهي ماذا وجد من فقدك، و ما الذي فقد من وجدك؟...) و (...إلهي ما ألذ خواطر الإلهام بذكرك على القلوب...) و (...إلهي اجعلنا ممن ذأبهم الارتياح إليك و الحنين...) و غيرها من كنوز محمد و آله ص المخفية التي تحكي عن مشاعرهم الحقيقية تجاه ربهم، فإما أن يكون ما يحكون عنه من لذة في هذا الدين غير حقيقية، و إما أن نكون نحن عمي و محرومون عن تلك الكنوز و المشاعر المغذية. إنكم تعلمون أن أساس الدين و هدفه هو مدرسة الحب و المعنى (وهل الدين إلا الحب؟!!) فإلى متى تتجاهلون مآسينا و آلامنا و ما نكابده من المصاعب و لا تغذوا قلوبنا بما يعصمها عن شهوات عصرنا الحاضر بمعنويات هذا الدين؟
- كربلاء الحسين و كربلاءات أخرى!
إننا لا نجد ما يُطرح على المنابر موازيا لكربلاء العشق و الصمود و المعنى و كأن لكم يا أهل المنابر كربلاءاتكم الخاصة و للحسين كربلاءاته الخاصة. فهل عشرة المحرم هي عشرة الثقافة و الفن و التنظير أم هي عشرة الثورة على أصول الشيطان و الفساد و الظلم و الطغيان و المبادئ الحيوانية؟ لماذا جعلتم عشرة المحرم و كأنها مناسبات روتينية على غرار أسبوع المرور و أسبوع الشجرة بينما جعلتموها أسبوع الثقافة؟ أليس هذا ظلما فادحا لثورة الله في أرضه و ثورة العاشقين؟ أليس هذا ظلما لثورة أصحاب الأخدود الثانية؟ ثورة المفدين أنفسهم لله حتى خاطب رضيعهم أمه: (ألقي بي و نفسك في الأخدود فإن هذا و الله في الله قليل!!). إنني أدعوكم يا مشايخنا و ساداتنا و علماءنا و أهل منابرنا و أئمة مساجدنا و مدرسي دوراتنا الدينية المسجدية و الحوزوية إلى انتهاج مدرسة آية الله الأستاذ السالك العارف المعظم السيد علي القاضي و آية الله المعظم الشيخ الشاه آبادي و آية الله المعظم الشيخ حسين قلي الهمداني -أعلى الله مقاماتهم- التي نهل منها كل عظماء المعرفة الإلهية مواردهم أمثال آية الله المعظم السيد محمد حسين الطبأطبائي و آية الله المعظم الشيخ محمد تقي بهجت و الروح المجرد السيد هاشم الحداد و العبد الصالح الحاج رجب الخياط و آية الله المعظم الميرزا الملكي التبريزي و آية الله المعظم السيد الإمام الخميني و آية الله السيد عبد الحسين دستغيب. نحن بحاجة إلى من يركز على الأخلاق و يكون متحببا إلى الجمهور كما هو سماحة الشيخ حبيب الكاظمي شبابي الأسلوب جماهيري المنهج الذي يمثل أنموذجا حيويا رائعا في هذا المجال.
هؤلاء التربويون العرفانيون قديرون و منهجهم السلوكي و التهذيبي و التربوي الغير محصور بما يفهمه الجهلاء من العبادة و التصوف على علاج ما نعيشه و نحياه من تخلف أخلاقي عنيف. إن منهجهم هو الدواء لنحيا ثورة حسينية، هو الدواء لنكون كوادر قادرين على صنع ثورات حسينية أنى احتاجتها الظروف، لا نريد كماً كما و لا تريدون، و لكن نريد كيفا، فقد يصادف و أن تنقلنا الحماسة لأن نقول "لبيك يا حسين" بوعي لمضمونها أو لا وعي، بينما قد نقول بعد أيام و أشهر "لبيك أيها الشيطان!"، "لبيك يا يزيد!"، فما الوسيلة أن نكون غير منافقين أو ضعفاء تتقاذفنا الانفعالات والمناسبات؟ نحن نريد أن نكون بريرا و زهيرا و وهبا و حبيبا و غيرهم و إلا نكن فالدين لعق على ألسنتنا، فثورة الحسين ع لا تكون إلا بمثل هؤلاء و إن لم يكونوا فلن تكون، فليس يغركم كثرة الحضور المكتسي بالسواد عند منابركم و لكن ليهمكم إعداد أهل لله، أليس هذا هو هدف عشرة المحرم التي يجب أن تكون طوال العام و أن يكون كل عامنا عشرة محرم؟ (كل يوم عاشوراء و كل أرض كربلاء) ألا تعني أن أكون مجاهدا للدنيا حرا عن رقها طوال العام، و أن يكون كل ما أضع قدمي عليه كربلاء أصنع فيها ملحمة نصر إيماني على الشيطان، و أن يكون كل يوم يمر علي هو عاشوراء أنتصر فيه على هواي؟ و أن أنتفض على كل إرهاب حيواني أو تخديري أو مادي، أن أنتفض على المحسوبيات و القبليات و العصبيات و الجاهيات و الأنانيات و النفاقيات و كل آفات شياطين الإنس و الجن الوبيلة، ألا يجب أن يكون شغلكم الشاغل طوال العام و مركزا في المحرم هو إعداد كوادر حسينيين يتحملون المغريات و يرخصون الأرواح في سبيل معشوقهم و عشقهم الذي هو غاية ما خلقوا لأجله و هو الله؟ و إلا فهل صنعتم عاشوراء لكل يوم و كربلاء في كل أرض يا من تقولون "لبيك يا حسين"؟.
- كربلاءات رومانسية
كم تشدني مظاهر الشوق و العشق في كربلاء و كم ينتابني شعور تصحبه النهدات أنا المحب للمشاعر المرهفة المنصهرة بين عاشق و معشوق. إني أحب العشق و قصص العاشقين و آنس بقصِّها و قراءتها، و إن كتبت الشعر فإن شعري لا يخلو من جسور أحرف بين عاشق و معشوق، لأن هذا و لي الفخر أجمل و أحلى و أبهى ما تعلمته من الدين الذي ما هو إلا الحب الصادق. و إن كربلاء الحسين ملئى بقصص العاشقين و أن الحب بين العاشقين يعني الانصهار. شدتني عبارة الحلاج لما صُبّت عليه ما عليه من التهم و قطعت يداه، إذ قال و هو يتوضأ بدمه: (ركعتان في العشق لا تكونان إلا بوضوء بالدم!) فأي عشق ذلك الذي يسلب صاحبه الإحساس بالألم في سبيل هذا المعشوق؟ كنا نسمع عن أهل الحب الإلهي كيف كانوا يعشقون الوضوء بالماء البارد لمعشوقهم، فكلما كانت مشقتهم أكثر كلما برهنوا حبهم و وفاءهم أكثر! ألم يقل الحسين صلوات ربي عليه: (تركت الخلق طرا في هواكا و أيتمت العيال لكي أراكا فلو قطعتني في الحب إربا لما مال الفؤاد إلى سواكا)، فأي معان رومانسية فياضة صادقة تلك التي انبعثت من الإمام الحسين و هو يتلقى السهام قائلا: (...فلو قطعتني في الحب...)؟ أي عشق وصل إليه الإمام الحسين ع مع مولاه جل شأنه ليتحمل من مولاه التقطيع في الحب، حتى قال أبوه: (...صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك...)؟ أي لباقة كان يعيشها الإمام الحسين و أي انصهار و ذوبان تمثل في ذاك اليوم الدامي في كربلاء الحب و الفداء نحو محبوب أزلي مجهول لدينا؟ أليس في الله شيء خفي جعل الحسين ع يقدم الأصعب و الآلم و الأعظم في سبيل حبه و قبوله؟ ما هي حقيقة تلبيات الحسين ع من مكة المكرمة و المشعر الحرام و عرفات و منى و مزدلفة؟ ما معنى "لبيك اللهم..." عند الحسين ع؟ ما معنى الصلاة و الحج و الزكاة عند الحسين ع؟ أي تلبية نطقها الحسين ع مع ربه و أي ولاء يكنه الحسين ع لربه؟ إن الحسين ع يعي ما يفعل و ما قدم تلكم التضحيات المغلظة لله إلا بعقل و معرفة و علم و إدراك، إذن فهنالك أعماق و أسرار و معارف و حقائق عن الله تجعل الإنسان يرخص كل ما هو عزيز لأجله، فإلى متى نظل محرومين حتى من نصفها أو ثلثها أو ربعها على أيديكم معاشر المشايخ و السادة و الأئمة و الخطباء؟
إن الهدف و الغاية من خلقتنا هو معرفة رب الحسين و الوصول إليه بالوسائل التي أرشدنا إليها الله و هي الحسين ع و جده و أهل بيته صلوات ربي عليهم، نحن نقرأ في الزيارة الجامعة (...السلام على الأدلاء على الله...)، و من أجل ذلك فلا بد من أن نعرف الحسين ع و أهل بيته ع لأنهم أدلاء على الله جل شأنه، ولا يصح أن نستغرق في الحسين ع وحده لنعطل وظيفته أساسا و هي الإشارة إلى الله فنجعله حينئذ حجابا عن الله و ليس دليلا إلى الله. إذا أردنا أن نعرف حقا من هو الحسين ع فلا بد أن نقرأ و نحس و نعيش ما كان يخاطب به ربه من كلمات غاية في الروعة و الجمال و البهاء بين عبد و رب، علينا أن نتعرف بقلوبنا على مشاعر الإمام الحسين في دعاء عرفة المعظم الذي وصل فيه الإمام الحسين ع إلى ما نعجز عن وصفه من الحب و القرب و الذوبان في سبيل الله. عند قراءتنا لدعاء عرفة فإننا سنعرف السبب الذي جعل الإمام الحسين ع يتعلق بالله إلى درجة ما فعل في كربلاء العاشقين، سنعرف ما كان يحويه هذا القلب من مشاعر فياضة عن الله جل شأنه، سنعرف حجم الشخصية التي سفك دمها في كربلاء و أي حرم و قداسة لله كانت تحمل، و نعرف مدى إمكانية أن تنتفض هذه الشخصية على الباطل و الفساد و الانحراف و الخطأ، سنعرف حجم الجريمة التي ارتكبت في ظهيرة عاشوراء، سنعرف ماهية القلب الذي جرحته سهام الشياطين و ما كان يحمل عن الله من قداسة، سنعرف هول المصيبة التي اقترفتها السباع بحق الإنسانية الكاملة، إن حبا هكذا يحمله الحسين ع لمعشوقه لا يكافئه إلا ركعات و صلوات و تلبيات بالدم: (إلهي إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى)، ما أجمل قلبك و روحك و عواطفك يا مولاي يا حسين، هل كل هذا الثمن الباهظ ثمن لرضا من معشوقك؟ أكل هذا قربان لمن تحب و تعبد؟
ما أروعك يا حسين! هكذا هو الدين أيها الإخوة، ها هنا تكون (و هل الدين إلا الحب!)، حب حقيقي لا أسطوري أو تلفيقي بين العبد و الله، هكذا يصبح الدين لذيذا، لا دينا تقاليديا تهويليا أُسريا روتينيا. هذا هو الحسين ع خليفة الله إذ كان متخلقا بأخلاق الله، كما و كان رحمة للعالمين تماما كما كان محمد ص إذ قال الله فيه: (و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). علمونا من الإمام الحسين أن نقدم كل شيء في سبيل الحق و العدالة و إن قل المنتهجون و السالكون، علمونا من الإمام الحسين أن نضحي و نصبر لنحرج الظلم أنّا يكون أو تكون قوته، علمونا من الإمام الحسين أن ننصر الصلاح قولا و عملا، علمونا من الإمام الحسين أن الحب البكائي وحده لا يحقق له نصرا و نصرة إذ كانت الكفة العظمى لمن (قلوبهم معه و سيوفهم عليه)، علمونا بأن حبنا لو آخى الهوى فقد نقتل من خلاله الإمام الحسين ع لو أحياه الله من جديد و نجدل منه كربلاء جديدة، علمونا بأن نصر الحسين ع لا يأتي بالعلم و الثقافة و حفظ القرآن و تبيان أحكامه، إذ وجد في الصف المغاير للحسين ع أساطين و نماذج كثيرة من العلم و المعرفة الزيفاء العزلاء عن القلب و التضحية فصار عندئذ علما لا ينفع. علمونا أن في الآلاف الذين قتلوا الإمام الحسين ع علماء و فقهاء و مصلون و تالون للأحكام و الشرائع وهي تلعق على ألسنتهم. علمونا أن نصر الحسين ع يتطلب وقفة جادة في ساحة الأحداث و تقديم ما تجف الشفاه بسببه و تفنى الحياة، علمونا أن الحسين ع لم يسكت عن الظلم و لم يسكت أن يرى حقا و دينا و شرعا لا يعمل به و أخلاقا فاسدة تتبع، علمونا أن الحسين ع لو كان فينا لقاد ثورة علينا لما نقوم به مما أقام هو ثورة ضده، علمونا بأنا على خطأ و زنونا على ميزان الحسين ع، علمونا بأن هنالك من المصلين في المسجد من قطعوا صلاتهم و لم يكملوها مع مسلم بن عقيل و التحقوا بركب الشيطان، علمونا بأن حقيقة الصلاة قد تكون كصلاتهم و أن إقامة الصلاة قد لا تكون إلا بتكبيرة الحسين ع في ظهيرة عاشوراء في تلك الصلاة الدموية، علمونا بأن الإمام الحسين ع بلاء عظيم لا يتحمله إلا الأحرار عن عبادة الدنيا.
فلا نقل بأن كربلاء قصة مأساة و دموع مشفقة و لكن كربلاء قصة ثورة الله في الأرض، ثورة المجيبين لله، ثورة الملبين المنصهرين في ذات الله جل جلاله و جماله (إلهي من ذا الذي ذاق حلاوة محبتك فرام منك بدلا..)، هكذا كان متمثل الحسين ع و هكذا انتهت قصته المنيرة مضيئة للعاشقين طريق السلوك لله حتى كان الحسين بذاته و بعظمته قربانا إلى الله سبحانه و تعالى: (اللهم تقبل منا هذا القربان)، الله الله! الحسين بعظمته قربان؟!! أترون لباقة هؤلاء الأولياء؟ الإمام الحسين يقدم كل ما يملك قربانا لله و يرغب في القبول! أما نحن فنقدم صلاة هزيلة كلها سهو عن الله مطمئنين برغم ذلك من القبول! ندعو الدعاء و نحن مستندون إلى الجدار متكلفين في تبديل جلستنا! نمن على الله عمليا بما نقوم به من الصالحات! فيا سوأتاه مما نعمل و نضمر و نتمثل!
ينبغي على أئمة المساجد و أهل المنابر و رؤساء الدورات الدينية و مدرسيها أن يركزوا على الطرح الروحي، و أن يملئوا قلوبهم بمشاعر الحب و العرفان الإلهي و أن يتزودوا من أساطين الأخلاق و العرفان الثقافة المعنوية، لأن هذه هي الوسيلة الوحيدة للإصلاح في سبيل الإمام الحسين في زماننا، لكي لا نكون مجتمعا يجب على حسين جديد أن ينهض فيه نهضة ليُخذل و يُقتل في سبيل الصحوة، و إنا بانتظار إنصاف الأهم على المهم في مشاريعنا و ما نطرح.
- أخيرا منبر و قدوة
نتمنى أخيرا أن يوجد من يعظ و ينصح و يربي بقول و فعل ليكون قدوة متحركة مؤثرة بالصوت و الصورة، تأمر و تكون أول الملبين كما كان أكابر المربين. و أن نراه يتنزل إلى الناس بكل تواضع و طيب و لين فلا يكون من الذين آمنوا الذين يقولون ولا يفعلون، و أن يخاطب الناس من على المنبر بعبارات التحبب و الأبوة، و أن يكون همه أن يعاني ما يعاني الناس و يصلح أمورهم و أخلاقهم، و أن يهذب نفسه و يتزود من العرفان العملي و النظري و لا يبخل به على الناس العطاشى و يبصر الغافلين عما غاب عنهم ليعينهم على مقاومة صرخات الإثم الحيوانية.
اللهم ارزقني شفاعة الحسين يوم الورود و ثبت لي قدم صدق مع الحسين و أصحاب الحسين الذين بذلوا مهجهم دون الحسين
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته