وقفات مع الدعوة الى تنقيح التراث (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي المصطفى وآله الميامين ,ولعن الله اعدائهم و ظالميهم من الاولين والآخرين.
قال تعالى ﴿ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ﴾.
في هذه الآية القرآنية وردت صفة مهمة للمؤمنين ..﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ﴾ , من المفترض ان تكون حركة الإنسان المؤمن نحو تطوير معرفته وفهمه الديني حركة دائبة ومتواصلة , سوف أتعرض الى مسألة حساسة في الجملة وتتردد على ألسنة الكتّاب والمفكرين وهي ما يعنون ( بتنقيح التراث )
- ما المقصود بهذه الأطروحة التي نسمع بها بين يوم وآخر؟
في السنوات الاخيرة وبعد ظهور التيار الشيعي كتيار حديث الطرح في العالم الإسلامي بمعنى أن العالمي الإسلامي كان ولقرون طويلة يتجنب الإشارة أو الحديث عن وجود تيار فكري اسلامي غير المتعارف ( الرسمي ), الان قد أصبح التيار الإسلامي التابع لأهل البيت حقيقة موجودة مطروحة , ولا يمكن لأحد ان يتغافل عنها او أن يدعي عدم وجودها, ولا يمكن لاحد أن يستصغر مكانها ومقامها وتاثيرها .
وعلى اثر ذلك خرجت حركة مضادة ذات طابع شديد الحماسة , وتصدت مجموعات للبحث والتنقيب عن مصادر هذا الفكر لعلها تتصيد خللاً هنا او عثرة هناك , وجردت هذه المجموعات همتها لهذا الغرض و بسبب قدرتها الاعلامية الفائقة ظهر الحديث عن وجود أخطاء أو روايات غير صحيحة أو معارف خلاف السائد والمقنن فكريا يتبناها أتباع المذهب الشيعي , وما جرى وسمعتم عنه وتسمعون في القنوات الفضائية هو دليل واضح على هذه المسألة .
وقد اصبحنا نسمع من هنا وهناك و بالسنة مختلفة عن الدعوة الى وجوب تصحيح التراث المروي عند مدرسة اهل البيت بما اصطلح عليه بـ( تنقيح تراث ) مدرسة اهل البيت, على كل حال سوف اتوقف عند عدة نقاط في هذه المسألة:
- الوقفة الاولى : اجواء استثنائية
تتميز الفترة الحالية وبعد نجاح الثورة الاسلامية في ايران وانتصارات حزب الله والاحداث الجارية في العراق بانها ولّدت ظروفا استثنائية تاريخيا في ما تتعرض له هذه المدرسة من مواجهات, ان هذه الدعوة تاتي تحت ظروف غير عادية وغير طبيعية والمفروض أن يكون النظر الى تصحيح التراث (بغض النظر عن صحته في نفسه كما سوف نناقشه لاحقا) بغرض أن يطرح في اجواء باحثة عن الحق متقبلة للتفكير والنظر وبشكل عقلاني ورزين وهادئ وغير مبني على ضغوط وعواطف .
لو أردنا ان نقيّم الوضع الحالي من جهة ضغوطه وتوجهاته على المذهب الشيعي لوجدنا اننا في مرحلة من اشد المراحل عداءً لمذهب اهل البيت ( كذبا ,تشويها ,تزويرا وتشويشا ومبالغة), الى آخر الوسائل الممكنة التي يتفنن فيها الاعلام المعادي ,أتوقف فقط للحظات عند مرحلة مشابهة وأقارن بين هاتين المرحلتين ولو على عجالة.
بعد قيام أمير المؤمنين ومواجهتة للانحراف الاموي ثم ما ألت اليه الامور بعد إستيلاء معاوية على الحكم والسلطة ومن تلاه من حكام بني امية تبنوا عدة اسس فكرية وثقافية و كان من اهم ركائز تلك الثقافة هو مواجهة علي واتباع علي , يروي المؤرخون مجموعة من الرسائل التي كان أرسلها معاوية الى ولاته في جميع اقطار العالم الاسلامي بخصوص هذا الامر..
- أنقل لكم جانبا من هذه الرسائل:
الرسالة الأولى أرسلها معاوية الى ولاته ( برئت الذمة ممن روى شيئا من فضائل ابي تراب) , وفي رسالة أخرى( لا تجيزوا لأحد من شيعة علي شهادة ) وفي رسالة اخرى الى ولاته ( أنظروا من كان قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه واهل ولايته الذين يرون فضائله ومدائحه فأدنوا مجالسهم وقربوهم وأكرموهم واكتبوا لي بكل ما يروي رجل منهم وأسمه وأسم أبيه وعشيرته) فتسابق الكتاب والمعلمون لكتابة أو إختراع ما يحقق هذا الغرض .
ثم بعد ذلك بعد مرور فترة من حكمه أرسل الى ولاته رسالة قال فيها (ان الحديث في عثمان قد فشى في كل مصر وناحية ,فاذا جائكم كتابي فادعوا الناس الى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الراشدين , ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسملين يرويه ابي تراب الا وأتوني بمناقض له في الصحابة).
ثم أرسل بعد ذلك (انظروا من قامت عليه البينة انه يحب عليا واهل بيته فامحوه من الديوان واسقطوا عطائه ورزقه ) , و في آخرى( من اتهمتوه بموالاة هؤلاء القوم ..( علي واتباعه ) فنكلوا به واهدموا داره) .
وفي مرحلتنا التاريخية المعاصرة عادت نفس هذه الروحية ولكن باساليب احدث واكثر تفننا اضعافاً مضاعفة ,اليوم يُتعرض الى أجمل وأنظف وأطهر جماعة مؤمنة واجهت العدو وحاربته وأرغمته وأذلته بأساليب هي تكرار ما مضى ويتوجه الى أتباع أهل البيت وأحبابهم ممن رفعوا راية الاسلام ونشروا حقيقة الإسلام وأعادوا للأمة حياتها التي فقدتها.
السيد الامام قدس الله نفسه الزكية من أحيا الناس في زمانه المعاصر من أعاد الى الإسلام حيويته, كيف توجه اليه بالخصوص والى أفكاره والى ما جاء به من أسهم الضلال والكذب والتشويه .
اقول في مثل هذه الظروف هل يوجد أسلوب صحيح لتنقيح هذا التراث , هل من المناسب والمعقول ان يعالج النظر في التراث ( اذا كان هناك معنى حقيقي كما سنشير الى هذه المسألة ..) تحت ظلال السيوف والرماح الاعلامية المعادية .هل نقوم بتنقيح التراث إرضاءً لفلان وفلان والجهة الفلانية حتى يرضوا عن المذهب الجعفري وفي ظل هذه الظروف غير العادية!! ..
- النقطة الثانية : خصوصيات المنقحين..
الذين يتولون طرح هذه المسألة, والذين يعتنون بطرح هذه المسألة مرة تلو الاخرى , هم اشخاص أو جهات امّا مغرضة ,أو مع الأسف قد تكون من جهات غير مغرضة تريد الإصلاح وتمتلك الغيرة على الدين ولكن مع الأسف لا تمتلك المؤهلات لطرح مثل هذه الأفكار ولا تملك المؤهلات لما يسمونه إعادة تنقيح التراث .
لو تصفحنا ما يطرح حول هذا الموضوع في وسائل الاعلام والخطب والكلمات ومايكُتب في الجرائد والنشريات والانترنت لوجدنا تشكيلة واسعة من المساهمات . بعضهم يكتب في الخُمس في أصحيّة الخمس وشرعيته , وهل هو صحيح أم أن مراجع أهل البيت أخترعوه لبقاء كينونتهم , وبعضهم يكتب في الإمامة وتصحيح النظرة حول الأئمة والروايات التي وردت في الأئمة , وبعضهم يكتبون في المرجعية ومقام المرجعية , والغالبية هم ممن لا يملكون المؤهلات في الكتابة في هذه الأمور .
العجيب أن لكل علم احترام(علم الفلك والطب والفيزياء) , يعني مثلا الطالب المبتدئ في علم الفلك مثلا لا يجادل في البحوث العالية فيه ولو تجرأ شخص لانب على ذلك. وهكذا في سائر العلوم إلا في علم الشريعة وفي علم الفقه فحدث ولا حرج , إنسان لا يعرف في علم إستنباط الأحكام ولا من قواعد التعامل ولا من القرآن الكريم , واذا به يحق له ان يكتب في الدين باحثا ومفتيا ومنقحا ومصححا ... ولا احد يعترض عليه .
- النقطة الثالثة :تنقيح تراث اهل البيت تحصيل حاصل..
ربما تكون هذه الوقفة هي الاهم حول هذا الامر ,إن تنقيح التراث عملية ربما يوجد لها حاجة أساسية عند هذه المدرسة او تلك ولكن أُحب ان أتوقف معكم عند نقطة مهمة جداً يجب ان نلتفت اليها وهي انه في العالم الإسلامي هناك مدرستان في التعامل مع التراث مدرسة آمنت بقواعد معينة محددة وفكر محدد , وتبنت ما يسمى بوقوف الإجتهاد عند مرحلة معينة وقالت أنه لم يعد هناك أحد يستطيع (اليوم) ان يأتي بشيء افضل مما أتى به السلف الصالح . فعلم الرجال واصول الفقه والفقه والحديث والتفسير ومعارف التوحيد وغيرها بلغت القمة على ايدي كبار العلماء وارباب المذاهب ودورنا هو البناء على القواعد التي اسسوها والنظر في التفاصيل المستجدة واما الاسس والاصول فقد فرغ منها .
وهناك مدرسة أخرى تقول أن الحركة العلمية لا يجوز أن تقف عند مرحلة معينة ولا يحق لأي إنسان أن يوقِف حركة تطور الإجتهاد , ولو أن المسلين توقفوا عن الإجتهاد وتوقفوا عن إستنباط الأحكام لأصبحوا كلهم مأثومين.
لنراجع كتبنا , سنقرأ في الرسائل العملية ( يجب على كل شخص إما ان يكون مقلِداً او محتاطاً ..او مجتهداً) و لو جاء زمان لا يوجد أي مجتهد لكان الجميع مطالبين بالسعي لتحقيقه .
- من هو المجتهد ؟
المجتهد هو الذي يؤسس من الصفر جميع مبانيه الفقهية ,لا يوجد لدينا مجتهد يقول أنا اتبنى رأي الشيخ الطوسي أو رأي غيره , بل يجب أن يُؤسس جميع أسسه من البداية , اذاً عملية الاجتهاد عندنا هي حركة دائبة مستمرة , في كل يوم يمارس علماء الشيعة عملية تنقيح التراث.
وما هو الاجتهاد؟!! هو عينه إعادة تنقيح التراث , ينظر المجتهد في كل الروايات التي وردت ويعيد مقارنتها والبحث فيها , وبالتالي هذا الكلام يصلح أن يقال لمن آمن بجمود عملية التطوير العلمي والإجتهاد, أما من أسس الحركة العلمية المستمرة الدئوبة فأي معنى لعملية تنقيح التراث , عملية تنقيح التراث في مدرسة أهل البيت تحصيل حاصل .
في كل ايام الدراسة في الحوزة العلمية يمارس المئات بل الاف من طلبة العلوم الدينية ( ما بين استاذ يحضر او دارس يستمع ) عملية التنقيح في التراث .
- النقطة الرابعة :النظرة الشمولية
لماذا يدور الحديث عن مدرسةأهل البيت واتباعهم أنه يجب عليهم أن يعيدوا النظر في تراثهم ضمن هذا النطاق الضيق من التركيز ؟
اقرأوا من روايات أهل البيتوما ورد فيها من معرفة ومن صور جمالية وروحية , فلماذا اصبح الحديث فقط أن الشيعة عندهم هذه الروايةٍ او تلك او هذا الموقف الفكري او ذاك غير صحيح!! , ان تراث اهل البيت يمتلك اضخم مكتبة علمية روائية وفي كثير من جوانب الفكر في الاسلام .
اننا لا نجد عند أحد من المسلمين بل لا نجد عند العالم بأسره هذا المستوى الروحي والمعنوي الذي يعيش العالم أحوج ما يكون اليه الا في مدرسة أهل البيت ع ,اننا لا يمكن ان نفهم فكر مدرسة من المدارس العلمية بانتقاء مقطع فكري منتزعا من جذوره واسسه الفكرية , فالصحيح اننا بحاجة الى تنقيح آخر ,وتصحيح آخر ولعلنا نتعرض له في موضع آخر , نحن نحتاج الى تنقيح وعينا في التعامل مع التراث لا تنقيح التراث وشتان بين هذين المعنين.
نحن في حاجة الى زيادة المعرفة في اصول التعامل مع التراث والفكر التراثي نحتاج الى زيادة ثقافتنا في كيفية التعامل مع هذا التراث الغني الثري ونسال الله عز وجل بحق النبي وآله صلوات الله عليهم أجمعين ونسال الله تعالى ان يعيننا على فهم ما جاء به رسوله وآله الميامين الطاهرين ..
وصلى الله على محمد وآله أجمعين ..