منطق 'شَعْرُ المرأة أكثر فتنة من وجهها'
كنت يوم (الجمعة 6/7/2007م) أناقش في حوار عائلي: 'انحراف مفهوم الحجاب الإسلامي عن هدفه الأصيل' ، و شرحت رؤيتي بما معناه: (أن الحجاب الإسلامي كان يهدف لتحصين المرأة ، و يتناول بالاهتمام قضية العفة و يركز عليها ، بينما تحولت قضية العفة لدى المتدينين التقليديين الحاليين الذين احتكروا تفسير الإسلام ، إلى قضية شعار بعيدة كل البعد عن المضامين(1) ، أي أن العبادة أصبحت لديهم حالة قشرية). و ضربت مثالا - ساخرا - فافترضت أن المرأة لو غطت جميع مفاتن جسمها من الأعلى إلى الأسفل بالقماش الأسود الفضفاض ، بينما تركت شعرها فقط أو بعضا منه بارزا للخارج ، فإن المتوقع أن يثير ذلك زوبعة في أوساط المتدينين القشريين ، و ربما يثير ذلك أزمة في العالم الإسلامي قاطبة (أقول ربما!) ، يمكن أن تشغل العالم الإسلامي عن قضاياه الكبرى و المصيرية(2) ، في حين يمكن أن يتغاضى نفس هؤلاء المتدينون عن كشف المرأة وجهها بالكامل ، حتى و إن كان ذلك الوجه (كفلقة قمر) ، مفعما بالمفاتن و الجمال ، لأنه طبعا غير خاضع لقشريات الحلال و الحرام المسطحة التي يخضع لها شعر المرأة. و سقت هذا المثال حينها فقط من باب التندر على بعض العقليات القشرية لا غير ، و لم أكن أحسب حساب وقوع حادثة مشابهة فوق أرض الواقع يوما ما.
كان هذا ما حدث بالأمس ، لكنني سرعان ما تفاجأت اليوم (السبت 7/7/2007م) و أنا أشاهد نموذجا يتجسد أمامي على أرض الواقع بسرعة لم تكن في الحسبان (بالنسبة لي) ، فبينما كنت أتصفح موضوعا مطروحا في أحد المنتديات السعودية المعروفة ، طرحه أحد المتدينين (كما يبدوا من سياق الحديث) ، و أدرج فيه صاحب الموضوع مجموعة من الصور التي كان من بينها صور لمجموعة من النساء كاشفات الوجوه ، و التي عمد هو لطمسها ، و استدعى الموضوع تعقيبات متنوعة ، كان من بينها تعقيب لأحد المتزمتين قال فيه: 'طيب المفروض تطمس الشعر ... أهم من الوجه ... الله يرحم تفكيرنا' ، و صراحة ضحكت في سري ، و تذكرت حوار الأمس ، وقلت: 'صراحة ، صدقت ، الله يرحم تفكيرنا'.
هنا أتوقف ، فهل يجدي سوق مزيد من الأمثلة لمن لم يجدي معه سوق المثال السابق ، لنقول له أن كثيرا من المسلمين اليوم أصبحوا واقعا قشريين ، يرفعون القيم و المثل و المضامين الإسلامية شعارا في التظاهرات الشعبية و المناظرات الفضائية ، لكنهم سرعان ما ينسونها عندما ينخرط الواحد منهم في مسائل الفتاوى و التطبيق العملي لهذا الدين العظيم ، فعندها طبعا تظهر القشرية بأبشع الوجوه.
و أكتفي هنا بالإشارة لما سبق ، و أترك التفاصيل للقاريء اللبيب ، و من لم يكن لبيبا فليستأجر لبيبا ، و ليحسن الاختيار ، لأنه سيدفع في المقابل مبلغا من المال ، فإن لم يرغب ، فليحاول أن يسأل نفسه: 'إذا كان الوجه و هو من أكثر مفاتن الجسم إبهارا (كما هو مفترض) ، يباح له شرعا أن يخرج للنور ، فلماذا تستحق بضع شعرات تسللت خلسة من حجاب امرأة عفيفة عند بعض القشريين ، أن تتحول إلى قضية عفة تضج مضاجع المسلمين جميعا ، فتلهيهم عن مناقشة جميع مآزقهم السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية التي لا حصر لها و لا عد؟'(3) ، و عندها فليحكم القاريء بنفسه على عقله ، و ليعرف متى يقول: (الله يرحم تفكيرنا).
- استدراك و خاتمة:
كان ما سبق النهاية الافتراضية لهذه المقالة ، التي أحببت فيها الاختصار ، رعاية لحاجة القراء في هذا الزمن السريع لوجبات سريعة ، إلا أنني كنت البارحة (مساء الأربعاء 11/7/2007م) ، في زيارة سريعة لديوانية أحد الأصدقاء ، فطرق سمعي حديث محوره (استغلال بعض المتدينين لزواج المتعة ، و تغريرهم ببعض الفتيات) ، و طبعا لم تكن تلك أول حادثة ، و قد لا تكون أيضا الحادثة الأخيرة من هذا النوع ، في ظل الثقافة الدينية القشرية التي تتسامح (و تترهل ) في جوانب الحزم و الشدة ، و تتشدد و تغلظ في جوانب اللين و التسامح(4) ، و في ظل ثقافة إعلاء بعض المتدين لمستوى الملائكة أحيانا ، أو النزول بهم لمستوى الشياطين أحيانا أخرى(5) ، دون فهم طبيعي عقلاني لطبيعتهم البشرية من منطلقات منطقية بحتة.
يقول الأخ (م.ع) - في لقاء الديوانية المذكور - ما معناه: 'إننا يجب أن نركز في نقاشنا على القضية المذكورة ، لا على مسميات الأشخاص ، لأن الأشخاص بشر مهما تدينوا ، و إن القضية قضية ضوابط لا غير ، لذا يجب تشديد الضوابط ، و المطالبة بتوثيق زواج المتعة (هذا) ، تفاديا للمغالطات و التلاعبات' - طبعا نقلت لكم الكلام السابق بالمضمون ، لأنني لست آلة ناسخة ، و لست أيضا حتى ممن يستطيع فقط تذكر الغداء الذي تناوله بالأمس - ، و إنني أتفق مع الرأي السابق ، فالقضية فعلا قضية ضوابط ، و يبقى المتدينون وغيرهم بشرا ، و كما يقولون 'المال السايب يعلم السرقة' ، كما أن الضوابط الهشة تعزز الجريمة.
قلت للأخ (م.ع): 'كلامك هذا رائع جدا ، لكن لماذا لا يقوم الشباب الواعي أمثالك ، بطرح أفكارهم هذه في الساحة؟! لماذا لا تقوم أنت مثلا ، بكتابة كلامك الجميل و المرتب هذا ، و تطرحه في مقال؟!'. طرحت على صاحبي هذا الاقتراح ، لأنني آمنت حقا بضرورة تكثير الخطاب العقلاني المعتدل. و لأنني استبعدت أن يتجه هو للكتابة في الموضوع ، قررت أن أبادر لطرح هذه الفكرة للنقاش في هذا المقال.
و في مداخلة قال الأخ (ن.ص): 'لقد أخبرني أحد المشايخ - دون أن يصرح بالاسم - ، أنه يرى عدم جواز زواج المتعة في بلد كالمملكة العربية السعودية ، لأن المملكة لا تجيز هذا النوع من الزواج' ، قلت: 'إن واجب المتدينين الواعين يحتم عليهم أن يبادروا هم بطرح هكذا أفكار في الساحة ، لأن رجال الدين الواعين بحاجة لبيئة صالحة لطرح تلك الأفكار ، كما أن لهم حساباتهم الخاصة ، و أتوقع أنهم لن يصرحوا هكذا تصريحات علانية ، ما لم يلمسوا في الساحة الدينية أرضية ممهدة لقبول طرح هكذا أفكار ، لأنهم لن يجازفوا حتما ببذر بذورهم في أرض سبخة ، خشية أن تفسد تلك البذور إذا وضعت في غير محلها الصحيح ، و بالتالي لا يجنون من وراء ذلك في نهاية المطاف إلا الإفلاس و تشويه السمعة و خسارة الدور الاجتماعي'(6).
و لقد أخبرتني زوجتي عن رأي للسيد فضل الله - حفظه الله - ، يوجب فيه توثيق زواج المتعة ، ولم يتسن لي الوقت للبحث عن مصادر لهذا الرأي ، لكنني أقول لكل فتاة مسلمة أن الواجب عليها أن تعي في هذا الزمن خصوصا ، أن بعض القشريين من بعض المتدينين و بعض رجال الدين ، قد أصابوا بعض أحكام الدين بالقشرية و التفاهة ، جراء إغفال المضامين الإسلامية الحقيقية ، و الاكتفاء بظواهر النصوص الدينية و مدلولاتها الحرفية فقط ، بغض النظر عن الدلالات المنطقية المترتبة عليها ، و على الشواهد التاريخية المقترنة بها ، و نحن نقول لهؤلاء هنا: ما فائدة تلك الشروط المتساهلة لزواج المتعة ، و التي لا تفرض التوثيق في الدوائر الرسمية ، و لا تتناغم مع رعاية الدولة الحديثة لتلك الضوابط و التشريعات الدينية ، و التي تجعل بالتالي زواج المتعة مثله مثل الزنا من حيث الممارسة السرية و الاتجار بأعراض الناس في الخفاء؟!. أما إذا كان هؤلاء المتدينون ينتظرون رواية دينية أو حديث نبوي شريف يخبرهم بضرورة التوثيق في دوائر الأحوال المدنية ، فلتذهب عقولهم إذا إلى غير عالم العقلاء ، لأن الأنبياء و الأئمة خاطبوا أهل زمانهم بلغاتهم اللحظية(7) ، فإذا ألا يكفي هؤلاء أن يعوا أن الدين بمجرد وضعه ضوابط على كافة أنواع الزواج و منها زواج المتعة ، أنه قد أعطى بذلك للمسلمين مؤشرا يقودهم منطقيا باتجاه روح الضوابط التي تحمي العفة و تقصي الزنا ، و ذلك أهم من قشرية التعابير و المصطلحات ، و بالتالي فإن من الضروري لعالم الدين في العالم المعاصر ، الارتقاء (بالفتاوى الدينية)(8) لمستوى معاصرة الزمان و المكان - و تطبيق ذلك في قضية المتعة هنا تحديدا - ، بدل التمترس في خندق المصطلحات و التعابير التاريخية ، فإن قضية الدين هي قضية قيم لها تمظهرات مختلفة عبر التاريخ ، لكن جوهرها في الحقيقة واحد ، و واجب رجل الدين هو الولوج الى المضمون ، لا التسمر عند تمظهرات التاريخ ، فليس الدين أحرف هجاء ، إنه الروح القابعة خلف تلك الأحرف و الكلمات ، وغير هذا قشور لن نبصر بها النور ، و السلام.