الشعوذة بين ثقافة المجتمع وسلوكه

لم يعد لجوء الكثير من أفراد المجتمع ـ وأخص النساء منهم ـ للمشعوذين والدجالين حالات فردية في المجتمعات العربية، بل أصبحت ظاهرة إجتماعية متفشية ، لدرجة أنها تطورت  في حاضرنا لتكون ظاهرة فضائية عالمية لها تأثير مباشر وكبير في ثقافة قطاعات كبيرة من المتابعين والمشاهدين، فما عادة البرامج العلاجية !!! كما تسوق بهذا الغاية التي تظهر في القنوات المتخصصة بهذه الأمور مادة للضحك والسخرية كما يفعل بعض المثقفين وأطباء النفس والعلماء الذين يضحكون من قول المنجمين والمشعوذين و يسخرون من أسئلة أفرد المجتمع لهم. فالأمر في غاية الخطورة في جانبها الديني أولا،وتداعياتها في سلوك المجتمع ثانيا، وتأثيرها الثقافي والفكرية ثالثا.

ونحن أمام هذه الظاهرة الخطيرة دينيا وثقافيا واجتماعيا مدعوون للنظر بشكل دقيق وجدي لأسباب لجوء المجتمع للدجالين المشعوذين والمنجمين، فالعلاج الأمني ليس هو العلاج الناجع و الوحيد لهذه الظاهرة الخطيرة كما تفعل بعض الدول، لأن المشكلة ليس جذرها الأساس تجاوزات قوانين الدول  لتكون الإجراءات الأمنية هي الوسيلة الفعالة والوحيدة في عملية القضاء على هذه الظاهرة، كما أن المشكلة ليست بالبساطة التي يمكن للمنابر الجماهيرية أن تساهم مساهمة فعاله في إيجاد الحل لها، وهذا لا يعني أن لا تكون للمنابر فائدة إرشادية وتوجيهية عامة للمجتمع. فالمشكلة كبيرة وعمقها يتمثل في طبيعة ثقافة المجتمع وطريقة تفكيره في مواجهة المصاعب التي تواجهه من الناحية السلوكية. إضافة إلى مدى وعيه الصحيح بالقيم والمبادئ الدينية السماوية التي يؤمن بها.

وفي تصوري أن أهم الأسباب التي تدعوا الناس للجوء إلى الدجالين عدة أمور،  اذكر بعضها:

الأول: الجهل وعدم الوعي ، وهذا السبب لم يعد يخفى على أبسط الناس فضلا عن المثقفين والعلماء، بحيث عندما يستعرض أحد دواعي لجوء أفراد المجتمع للمشعوذين يذكر الجهل كأهم الأسباب التي يُلقي بالإنسان على أعتاب الدجالين، ولهذا لا حاجة للإطالة في الحديث عن هذا السبب.

الثاني: عدم وجود برامج علمية نفسية تحث المجتمع على العلاج النفسي، والذي يتحمل الجزء الأكبر في هذا النقص الواضح هم الأخصائيين بالأمراض النفسية، والمشكلة في هذه شريحة المهمة أنها:

أولاً:  إما أنها غير متصدية في إعطاء فكرة عن الأمراض النفسية في المجتمع عن طريق إلقاء محاضرات مركزة ومتخصصة في الأمراض النفسية تبين من خلالها للناس: 1ـ أهمية تخصص علم النفس في علاج الكثير من الأمراض التي يعاني منها المجتمع.
2ـ تبين من خلال المحاضرات للناس الأثر السلبي للأمراض النفسية في علاقتهم وحياتهم وجسمهم. وهذين الأمرين يحتاجان منهم أن يتعاطوا مع المجتمع في المرحلة الأولى على اقل تقدير بغير المنطلق المادي الربحي ، أو لنقل من منطلق الدعاية  والإعلان لتخصصهم وأهميتهم في علاج الأمراض، فيكون المردود المادي بعد هذه الإعلان مردود إيجابيا مربحا.

ثانيا:إما أنها تفتقر للمعرفة بالمستجدات التخصصية في مجالها النفسي بحيث تكون مطلعة وملمة بأحدث الدراسات والنظريات النفسية التي يتم يطورها ويكتشفها علماء النفس في الدول المتقدمة والمتطورة ، فتكتفي هذه الشريحة بما درسته وتدرسه في المناهج الأكاديمية دون أن تطور من ثقافتها خارج المناهج التعليمية. وهذا العامل ساعد في عدم فاعلية الأخصائيين النفسانيين في مجتمعنا، لدرجة أن وجودهم في المجتمع بل في المستشفيات والعيادات أصبح وجودا هامشيا في نظر الناس، فأقل الأطباء الأخصائيين مراجعة في مستشفياتنا هم الأخصائيين النفسانيين، مع أن أهمية وجودهم وتخصصهم في واقع المجتمع يوازي الأخصائيين في المجالات الطبية الأخرى؛ إن لم نقل أن أهمية تخصصهم في المجتمع في وقتنا الحاضر الذي تنتشر فيه الأمراض النفسية تفوق أهمية الكثير من التخصصات الطبية العضوية. فأغلب الأمراض التي بسببها يلجا أفراد المجتمع للدجالين المشعوذين والمنجمين أسبابها نفسية ، وبقية الأمراض ترجع إلى الخلل في هرمونات الجسم أو العقل، فالرجوع للمختصين في الطب النفسي أمر في غاية الأهمية في حل مشاكلنا، ولو طالعنا الواقع الأمريكي لرأينا أن الميزانية التي تصرف في العلاج النفسي تكاد تكون ثاني أكبر ميزانية في الولايات المتحدة بعد الدفاع والتسليح، وعندما أقول العلاج النفسي في أمريكا لا يعني ذلك أن تكون درجة المرض عند المريض حرجة، بل الأمريكي يستشير الأخصائي النفسي في أكثر قضاياه ومشاكله، فعندما يصاب على سبيل المثال جندي في الحرب أو في أداء الواجب الوطني في الولايات يراجع أخصائي نفسي ليعزز ثقة المصاب بنفسه في تعامله مع الحياة وهو مقطوع اليد أو الرجل أو مشوه أو غير ذلك، كما أن الأمريكي لا يجد غضاضة وحرجا إجتماعيا في نفسه عندما يذكر بأنه يراجع أخصائيا نفسيا متخصصا في العلاقات الأسرية أو الضعف الجنسي أو علاج الغضب والتهور أو غير ذلك من الأمراض النفسية التي لا نلقي لها بالا في مجتمعا، أو أنهم يتخوفون من كشفها أمام أهلهم فضلا عن عامة الناس كما نفعل نحن في مرضنا ....


الثالث: عدم الرغبة في تحمل المسؤولية، وفي تصوري أن السببين الأولين يعودان لهذا السبب، فالإنسان العربي يخشى أن يتعلم لئلا يتحمل مسؤولية العلم، كما انه يخاف من مواجهة أمراض ذاته لئلا يتحمل مسؤولية مرض ذاته، فيلجا بسبب خوفه من تحمل المسؤولية لتحميل الآخرين مسؤولية مشاكله وأمراضه ولو عن طريق تحميل الجن مسؤولية ما يعانيه في علاقاته الأسرية أو أنشطته الإقتصادية أو حتى في ضعفه الجنسي، والجن ليس لهم محامي يدفع عنهم تهم تخريب البيوتات أو إفلاس الأغنياء أو إفقار الفقراء، فعوضا أن نبحث عن أسباب فشل العلاقات الأسرية التي نعيشها مع أهلنا في ذاتنا، أو نبحث عن نقاط  فشل خططنا الإقتصادية التي ونضعها لأنفسنا ، أو نبحث عن الأمراض الجسمية والصحية في ضعفنا الجنسي  أو غير ذلك من المشاكل نبحث عن معالج مشعوذ  يلقي بالمسؤولية بالمقابل نيابة عنا على ملك جني أو نصاب جني أو متسول جني أو  كافر جني أو حتى قبيلة جنية غزتنا في جسمنا ، وإن استدعى الأمر نلقي بالمسؤولية بالمقابل نيابة عنا على جنية عزباء لم تلقَ  لعدم جمالها زوجا من جنس الجن فلجأت للتزوج بإنسان من جنسنا لتهدم بيت تلكم المرأة التي صدى عنها زوجها في الفراش أو عاملها معاملة خشنة في البيت. فنحن في الحقيقة نحاول الهرب من مسؤولية مشاكلنا ليس فقط لتكاسلنا عن البحث عن علاج لها، بل لإلقائها على الآخرين أيضا.

8/7/2007