ليسوا مجرد أناس متشددين فحسب ... بل هم أيضاً أناس مهووسون بالفتن
يخطيء كل من يظن أو يتعامل مع قضية التشدد الديني في مجتمعاتنا الإسلامية على أنها قضية تشدد فكري ديني فحسب خالية من أية أبعاد أخرى نفسية أو سيكولوجية مضمرة. فالمتشددون في مجتمعاتنا ليسوا فقط أناس حريصون حتى الموت على الدفاع عن أفكارهم وقناعاتهم وعقائدهم فحسب، بل هم أيضاً أناس مهووسون حتى مرحلة المرض باختلاق وافتعال الصدامات واجترار وتحين فرص الفتن والأزمات ومصائبها وآلامها.
وهذا هو المشهد الواقعي لتلك الشخوص المتطرفة الضالة التي نبتت في عالمنا الإسلامي. والسبب الحقيقي لوجود مثل هذه المخلوقات الضارة الفاسدة ذات الطبيعة العدائية الدموية في مجتمعاتنا، وفي تشكل ذلك الهوس البغيض المتسم والمتميز بالضغينة والحقد على الآخرين وبالولع الشديد بتمزيق أشلائهم وسفك دمائهم، هو أن البيئة العليلة التي عاش فيها هؤلاء بما تحمله أو بما كانت تحمله ضمن مكوناتها وتركيبتها من عناصر فاسدة ودعائم مختلة، كانت كافية لتشكيل وتبلور هكذا نفسيات منحرفة ومريضة خلقت منهم مثل هؤلاء: (البشر الوحوش المرضى النفسيون). لذا هنا فإن ما يحتاجه منا مثل هؤلاء، وما يحتاجونه من المحيطين بهم من قرب - بشكل أولى -، هو شيءٌ من التفهم المنطقي لأزمتهم النفسية وواقعها، والدراسة الجادة لمأزقهم وطبيعته، ثم الدخول معهم في ممرات الطبابة السيكولوجية والعلاج النفسي والسلوكي طويل المراس.
فمخطئ كل من يظن منا أو من غيرنا، أن كل من حوله من المخالفين له في الدين أو في المذهب - أياً كانوا -، المعادين له حتى النخاع وحتى سفك الدماء، على قواعد ومرتكزات عقائدية، هم فقط من الخبثاء "المعارضين والمعاندين لله". فالمخالفون للحق في الواقع أنواع شتى وليسوا صنفاً واحداً، وربما كان كثير منهم أو غالبيتهم، مجرد ضحايا للبيئات الفاسدة والتربية الخاطئة والأفكار المغلوطة، وإلا لما كان هناك - من وجهة نظر دينية - معناً ضرورياً للتمايز والتفصيل في قوله سبحانه وتعالى (غير المغضوب عليهم ولا الضالين). فليس كل المنحرفين فكرياً هم في حقيقتهم وبواطنهم معاندون يعرفون الحق فيجحدونه، بل الواقع يشهد على عكس ذلك، إذ أن هناك من يطلب الحق فيخطئه ... وهذا ما أشار إليه مولى المتقين وأمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في حديث له عن الخوارج - أو بعضهم -.
لذا فإن ما أريد قوله هنا ببساطة، أن التعامل مع كثير من المتطرفين والمتشددين الدينيين في مجتمعاتنا الإسلامية عموماً ومجتمعاتنا الخليجية خصوصاً، يجب أن يتم ولا يصح أن يقوم - غالباً - إلا على قاعدة أن هؤلاء ما هم إلا (مرضى نفسيون) و(مهووسون) من ضحايا الأفكار الدينية المتطرفة والخاطئة التي تتسم بها بيئتهم، التي غرست فيهم (التفكير المرضي) منذ الصغر، وربتهم على حب الفتن والقلاقل والأزمات والاعتداءات على الآخرين المخالفين لفهم.
ونحن إذا نظرنا لأنفسنا كبشر، فأنا وأنت (عزيزي القاريء)، قد نولد في بيئة تغرس فينا: حب القراءة والمطالعة، أو حب التقنية والصناعة أو الاختراع والابتكار، أو حب التمثيل، أو حب الفنون التشكيلية والرسوم الجميلة، أو حب الفلسفة والمنطق، أو حب الشعر والأدب، أو حب مباريات كرة القدم، أو حب سباق السيارات ... وقد يتطور هذا الحب فيتعمق تبعاً للبيئة بشكل طبيعي حتى يصل مرحلة الإدمان والهوس دون أن يكون لنا إدراك تام لذلك وقد يبقى معنا هذا الحب ويستمر طيلة العمر، وطبعاً لا ضرر هنا في ذلك مادام ذلك الهوس وذلك الحب هوساً وحباً حميداً في قضايا علمية أو تقنية نافعة مجدية وبشكل مقبول مثلاً، أو إذا كان ذلك في قضايا الترويح والتسلية بحيث لا يجلب الضرر أيضاً، وهذا وارد. وقد نقل عن بعض المخترعين والباحثين أنه في ليلة زواجه قضى معظم ليلته أو كلها في المختبر باحثاً أو منقباً أو مجرباً أو مطالعاً ... وربما كان في ذلك هوسٌ أو تطرفٌ في الحب، لكن هل يمكن أن نبالغ فنتعنت في رفض ذلك الحب ونصفه بأنه مرض يحتاج للعلاج؟!!!.
من الناحية الأخرى، هناك من رباهم زمانهم وبيئتهم ومحيطهم على الحب المفرط للفتن والدماء والأشلاء والقتل والبغض والكره ورفض كلمات الحب وقمع الكلمة الطيبة ... فمثل هؤلاء يصبحون متعلقين جداً بشيء سلبي بشكل مفرط فيدمنون عليه ويقدسونه ولا يمكنهم تركه أو التخلي عنه أو التراخي فيه ... مثل هؤلاء هل يعقل أن يعاملوا معاملة الأسوياء أو أن نقبل أن نقول عنهم: غير أنهم "مرضى نفسيون" أو غير أن نقول عنهم أنهم "مرضى سيكوباتيون" ... أو غير أن نطالب بخضوعهم للرعاية الطبية السلوكية والنفسية؟!!!.
إذاً تبقى الحقيقة الصامدة هنا، أن كثيراً من المتطرفين والمتشددين الدينيين - الذين نتحدث عنهم -، هم في الحقيقة ليسو سوى مرضى نفسيون غرست فيهم (بيئتهم وثقافتهم المختلة) منذ صغرهم - غالباً - تعلقاً بالفتن والدماء والعنف والحروب وانجراراً وتوقاً لذلك كله ... لذا فهؤلاء بحاجة منا وممن حولهم للعلاج والطبابة النفسية والسلوكية أكثر من حاجتهم لأي شيء آخر ...، أي أكثر من حاجتهم للمزيد من الصراخ والضجيج والعنف خصوصاً من الآخرين الذي يشاركونهم نفس البيئة المادية أو الفكرية أو نفس المحيط.
وهذا ليس في الأخير دفاعاً عن التكفيريين والمتشددين والمتطرفين، ولا يجب أن يفهم كذلك. بل هو لفت انتباه وتوجيه أنظار لعلة ذلك الهوس بالتطرف والتشدد وحب سفك الدماء لدى البعض، الذين نعيش تداعيات فتنهم بين الفينة والأخرى، فذلك هو الذي تغرسه بعض البيئات الفاسدة في صبية صغار كانوا أبرياء ولدوا كغيرهم على الفطرة ... ثم يكون الأبوان والبيئة هما من (يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) ... فتلك هي البيئة ... وتلك هي آثارها ... وهؤلاء هم ضحاياها ... لذا يجب أن نتفهم هذا فحسب.
وهنا أقول لكم: هل يجاري المجنون غير المجنون، وهل يقبل بالصدام مع المريض النفسي غير المريض النفسي - إذا ما استثنينا طبعاً ما اضطر إليه الإنسان -؟!!!
لذا أدعوكم إخواني الطيبين المتسامحين الخلوقين الأسوياء والصالحين نتاج البيئات الطيبة ممن يعيش في محيط البيئات الفاسدة أو قريباً منها أو في فراغات مضيئة ضيقة داخل خندقها المظلم، للهدوء والحكمة، وأتمنى منكم التعقل والتريث وتفهم حقائق الأمور وواقعها وأن لا يأخذكم كغيركم مجرد العاطفة والانفعال.
وأخيراً فالله المستعان على ما سيقوله الجاهلون.