وضاقت عليكم السياسة بما رحبت

  • رؤية في العمل السياسي المنفتح

تتعدد أساليب العمل السياسي تبعا لطبيعة تجاهه وبالتالي تبعاً للعوامل المؤثرة فيه، ومن غير المستساغ ثبات الأسلوب السياسي في حال تبدل العناصر التي تتشكل منها معادلة المناخ السياسي.

لعل هذا مايعلل وجود الكثير من الرؤى القرآنية المختلفة التي تتحدث عن معادلات السجال السياسي، حيث يتضح من خلال بعض اللمحات القرآنية، أنه لاتوجد ممارسة ثابتة في العمل السياسي، مايقودنا لضرورة التعرف على اشكال العمل السياسي والعوامل المؤثرة في كل شكل..، ومتى نستخدم خياراً أو نرجئ آخر.

  • الواقع القرآني السياسي

بين وقت وآخر، تسري بعض الاتجاهات الفكرية والثقافية في المسار السياسي، حيث نلاحظ في هذه السنوات بروز شعار (الحوار) كمفتاح للوصول لبعض المكاسب السياسية، وذلك بعدما تسيدت في المنتصف الثاني من القرن الميلادي الفائت اتجاهات الثورية والنضال، ليس في الجماعات الإسلامية فحسب، بل حتى في غيرها.

ولايمكن تصويب أو تخطيء أي من الاتجاه (الحواري) أو (الثوري) هكذا بعمومية وارتجالية، لكن مايمكن قوله أن الاتجاه السياسي المرن، المتمكن من وعي الظروف واستيعاب المتغيرات، المستند على المبادئ القرآنية هو الأصلح لخدمة قضايا التجمعات المشتغلة على الحراك السياسي. فأمواج السياسة السريعة، تبتلع من يتباطأ في مسلكه السياسي، ذلك أن التغييرات المتسارعة في الواقع الخارجي لاتحتمل التباطؤ.

العزلة، الحوار، القتال والسلم، أربعة أجنحة قرآنية، والحركة السياسية الناجة هي من تحمل على ظهرها هذه الأجنحة جميعاً، حتى إذا ما احتاجت أحدهما رفرفت به ألى حيث شواطيء الإنتصار.

  • 1. العزلة

لقد ألمح لنا القرآن من خلال ومضاته التاريخية، أن (العزلة) قد تكون قمة الإبداع السياسي، وذلك حينما تكون المقدرات الدينية والقيمية في خطر، حيث يمتدح الله سبحانه وتعالى صنيع أهل الكهف(1)  ، ذلك على الرغم من أنهم اعتزلوا مجتمعاتهم، لا لينشئوا عملاً سرياً يعودون به فاتحين.. بل أن عزلتهم كانت فترة طويلة من النوم فقط وفقط. حيث أنهم (كانوا يعيشون في بيئة فاسدة وزمان شاعت فيه عبادة الأصنام والكفر، وكانت هناك حكومة ظالمة تحمي مظاهر الشرك والكفر والانحراف) (2).

فـ (مجموعة أهل الكهف - اللذين كانوا على مستوى من العقل والصدق - أحسوا بالفساد وقرروا القيام ضد هذا المجتمع، وفي حال عدم تمكنهم من المواجهة والتغيير فإنهم سيهجرون هذا المجتمع والمحيط الفاسد)، وذلك بعد أن (قاموا بما يستطيعون لإزالة صدأ الشرك عن قلوب الناس، وزرع غرسة التوحيد في مكانها، إلا أن ضجة عبادة الأصنام في ذلك المحيط الفاسد، وظلم الحاكم الجبار كانتا من الشدة بحيث حبستا أنفاس عبادة الله في صدورهم وانكمشت همهمات التوحيد في حناجرهم. وهكذا اضطروا للهجرة لإنقاذ أنفسهم والحصول على محيط أكثر استعداداً وقد تشاوروا فيما بينهم عن المكان الذي سيذهبون إليه ثم كان قرارهم: (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ). حتى: (يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا)) .(3)

(ويتضح الأمر أكثر إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن التاريخ ينقل لنا أن أصحاب الكهف كانوا من الوزراء وأصحاب المناصب الكبيرة داخل الحكم، وقد نهضوا ضد الحاكم وضد مذهبه، وكان اختيار حياة الكهوف على هذه الحياة قراراً يحتاج إلى المزيد من الشهامة والهمة والروح والإيمان العالي) .(4)

فكانت هذه (العزلة) والتخفي، ناقوس رعب يحيط بكل لحظات حكومة (دقيانوس)، ورسالة تشجيعية وتحريضية لبقية المجتمع لمواجهة الحكومة المتفرعنة، حتى بات صنيعهم أهزوجة يتغناها المجتمع جيلاً أثر جيل، فتطرب آذانهم عزة وكرامة، وترقص مسيرتهم على مسرح الشجاعة.

فقرارهم لم يأتي إلا بعد أن توصلوا إلى أن مشروعهم الإصلاحي في خطر، والأصلح تغيير المسار.

  • 2. الحوار

يقدم القرآن خيار المواجهة الحوارية، كاجراء مبدئي يمكن للحركات السياسية الطامحة لنيل حقوقها الشروع به كخطوة أولية في طريق المشروع السياسي، حيث يصطبغ المنهج التفاوضي القرآني بالمرحلية في طابعه العام: ﴿اذْهَبَآ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى . وعلى الرغم من الطغيان الفرعوني الفاحش الذي وصفه القرآن: ﴿يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ ، إلا أن القرآن بدأ معه بالقول اللين.

الجميل في هذا المسلك، أنه يختزن في طياته القدرة على التصعيد، لا الإنسحاب أو الإستسلام، أو التماهي مع حقن التخدير التي ينفثها الطاغي، فقول موسى اللين، مشروط بالإستجابة وإلا فإنه يستحيل إلى رفض ومعارضة.

  1. 3. القتال

وفي ظرف آخر وضمن معادلات مختلفة يستحيل الخطاب القرآني إلى رؤية مغايرة، ولعل في قصة جيش طالوت سلام الله عليه، صورة واضحة عن مشروعية المواجهة العسكرية، التي لم تكن لتحدث لولا وجود طرف معتدي يمارس الظلم والتنكيل، فلم يكن حينها خياراً لرفع الظلم والحيف سوى المواجهة العسكرية المسلحة ضد جالوت وجنوده(5) . فهذه المواجهة العسكرية التي تسيل فيها الدماء وتُزهَق فيها الأنفس، لهي أرقى أساليب حماية الأرض والمجتمعات من الفساد الذي تشكل نتيجة لظلم الظالم وخنوع المظلوم.

يتضح ذلك من خلال التحريض على القتال والمواجهة: ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (6)  ، بل أن الخطاب القرآني لايكتفي بالتحريض، بل ينتقل وفي ذات السياق وفي الآية التالية إلى التأنيب متسائلاً: ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا.. (7)  ، بل أنه يرسخ العقيدة قبل التحريض على العمل، حينما يعلمنا الدعاء: ﴿وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (8)  ، حتى يثبت فينا الموقف قبل الفعل من التيارات الظالمة والمنتهكة، بغض النظر عن تشكلها الديني أو السياسي أو الفكري والثقافي.

إذن.. نحن أمام ثلاث صور من التحركات السياسية المبثوثة بين طيات كتاب الله العزيز.
ولكن هل توجد حلول سلمية...؟

  • 4. وللسلم شروط:

الحالة السلمية في العمل الإسلامي فكرة أصيلة، وكما للـ (عزلة، الحوار والقتال) ظروفهما، كذلك فإن الأمر ذاته منطبق على الحالة السلمية.

فالفكر السياسي الإسلامي ليس فكراً قتالياً أو انعزاليا على الإطلاق، بل أنه فكر يضع في المقام الأول أحقية الإنسان بالعيش الكريم، وحينما يعارض الواقع هذه الرؤية، فإن القرآن يوضح مواقفه ويستخدم أدواته في سبيل صون القيم وتحقيق العدالة، حتى إذا ما تحققت نراه يدعوا للسلم وتنحية الأسنة والتعايش الكريم.

فمن وسط التعاليم الحربية، ومن وسط أبجديات القتال، ومن قلب المعركة بين الإرادات الخيرة والشريرة، يستوقفنا القرآن في سورة الأنفال ليأمرنا: ﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(9) . وذلك وفق شروط أيضاً.

إذن (العزلة، الحوار، القتال والسلم) ومابينهما وما قبلهما ومابعدهما، صور متنوعة ينتمي لهما العمل السياسي في الرؤية القرآنية، ويتبعون في توقيت استخدام أي منهم متغيرات عديدة، على هذا نحتاج جميعاً أن نستغرق ملياً في تفهم أوجه العمل السياسي وفقاً للرؤية القرآنية، ثم نتفقه في اتخاذ الخيار، ليس بالضرورة تكن هذه مهمة الفقيه، وليس من المستبعد أن تكن من مهمات المثقف، ولكن الأكيد أنها من صميم صلاحيات من يبذل جهده ووسعه في التعمق في المنطق القرآني المفتوح لكل ﴿مُّدَّكِرٍ، ويتحمل –تبعاً لفهمه- دوره ومسؤوليته الإصلاحية.

أهم ما يتوجب قوله في نهاية المطاف: إن كنا نؤمن أن القرآن مشتمل على الإرشاد السياسي، فمن المرفوض أن نستأثر بأفهامنا عن الاسترشاد بالرؤية القرآنية في الحراك السياسي. إنه لمن المقلق حقاً أن نتقلب في مراحل سياسية دونما تبرير مستند لرؤية قرآنية بعيدة عن التجزيء (والتعضية) (10) .

علي الدبيسي
الأحد 15/03/2009

(1)﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) سورة الكهف.
(2)ناصر مكارم الشيرازي، قصص القرآن، ص 398.
(3) نفس المصدر، ص 399.
(4) نفس المصدر، ص 399 – 400.
(5)﴿فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) سورة البقرة.
(6) (74) سورة النساء.
(7) (75) سورة النساء.
(8) (11) سورة التحريم.
(9) (61) سورة الأنفال.
(10) ﴿الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ (92) سورة الحجر.