الوجهاء الجدد
في المجتمعات الحديثة لا يوجد وجهاء بالمعنى المتعارف عندنا، بل هناك مؤسسات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية تعمل مستقلة عن الدولة لتحقيق أغراض متعددة كالمشاركة في صنع القرار أو الدفاع عن مصالح أعضائها أو المساهمة في التنمية أو نشر الوعي وغير ذلك، ويتكون من مجموع هذه المؤسسات ما يعرف بالمجتمع المدني.
أما عندنا فما زال الوجيه يقوم بدوره التقليدي فيتدخل لإصلاح ذات البين ويحاول أن يساهم في حل مشاكل البطالة والطلاق والعنوسة والعنف الأسري والفقر والتعليم والتوظيف والفصل التعسفي والتمييز الطائفي، ولا تنتهي القائمة عند التفحيط وفوضى السلاح والمشاكل الأخلاقية والاجتماعية المتفاقمة التي أصبحت تفتك بروح وجسد مجتمعنا، بل تمتد لتشمل المطالبة بتوفير أو تحسين الخدمات العامة إلى غير ذلك.
ننظر إلى الوجيه، وربما ينظر هو إلى نفسه، كأنه سوبرمان يستطيع أن يتدخل في كافة الشؤون وأن يشارك في كل القضايا دون أن ندرك بأن العالم قد تغير كثيرا ودخل مرحلة ما بعد الحداثة وما بعد عصر المعلومات، وتكاثرت المنفيات بلا كسياسة بلا نواب وترحال بلا انتقال وحضور بلا وجود وجيرة بلا قرب كما يشير إلى ذلك د. نبيل علي في كتابه القيم ( الثقافة العربية وعصر المعلومات ).
تغير العالم كثيرا وتعقدت القضايا بشكل مخيف، وبالتالي فإن المقاربة التقليدية للتعاطي مع شأننا العام لن تستطيع أن تستجيب لتحديات العصر الأمر الذي يؤدي إلى تراكم المشاكل وتفاقمها حتى يتسع الخرق على الراقع كما يقولون، وقد اتسع بالفعل.
لنأخذ مثالا على الوجيه الجديد في المجتمع الحديث. رالف نادر الذي رشح نفسه للرئاسة الأمريكية في العامين 2000 و 2004 م، هذا الرجل أصبح ظاهرة في العمل التطوعي الذي يعنى بالشأن العام، اختار حماية المستهلك مجالا لعمله، وقام بتأسيس عدة منظمات غير حكومية وغير ربحية هدفها حماية المستهلك منها منظمة ( المواطن العام Public Citizen ) التي تضم أكثر من 150000 عضو ومئات الباحثين في مختلف مجالات حماية المستهلك. نادر يعرف اليوم بأنه أعنف زبون أمريكي، وأصبح مصطلح " نادريزم" أو " النادرية" مرادفا لعدم رضا المستهلكين عن المنتج أو الخدمة.
عند قراءة هذا المثال نفهم كيف أن الوجيه الجديد وجيه متخصص يختار مجالا واحدا لحركته ليبدع فيه ويقدم أقصى ما لديه، ثم إنه لا يعمل وحده بل يحول العمل إلى مؤسسة تضم مختلف الطاقات ذات الاهتمام المشترك، فتتراكم الخبرات وتتضافر الجهود للوصول للهدف المبتغى. إذن التخصص والمأسسة والرؤية الواضحة المشتركة سمات الوجيه الجديد في المجتمع الحديث.
وهذا ما نحتاج له بالفعل في مجتمعنا، فليس صحيحا أن يظل الأمر كما هو عليه في وقت يتغير فيه كل شيء إلا طرائق عملنا. ليس صحيحا أن نعالج مشكلة التمييز الطائفي مثلا بنفس الطرق التقليدية، فنحن – حتى الآن – لا نملك أية أدوات لمعرفة حجم المشكلة، وليس لدينا أية بيانات دقيقة عن مفرداتها ووقائعها على الأرض، ولا يعلم من يتعرض لممارسة طائفية الأدوات التي يمكنه من خلالها إيصال صوته أو إيقاف انتهاك حقه. وهكذا الحال بالنسبة لباقي مشاكلنا.
ما نحتاجه هو مجموعة مؤسسات يعمل كل منها على شاكلته في مجال تخصصه، وتحشد كل منها كافة الموارد لتحقيق هدفها.
نحتاج لمؤسسات تعنى بالطلاق وأخرى بالبطالة وثالثة بالحقوق المدنية ورابعة بالعنف وخامسة بالبيئة وسادسة وسابعة وهكذا.
نحتاج لمؤسسات تعنى بصنع الكفاءات والكوادر البشرية خصوصا في مجالات صناعة الخطاب الإعلامي الذي تشعبت آفاقه وأصبح الأكثر تأثيرا في عالم اليوم. نحتاج ونحتاج ونحتاج،،،،،
نحتاج بشكل أساسي إلى تشجيع العنصر الشبابي من الجنسين على إطلاق المبادرات ذات الطابع المؤسسي في شتى المجالات ليتحمل مسؤوليته وليشارك في صنع مستقبله السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي.
أما أن يبقى الحال على ما هو عليه وعلى المتضرر اللجوء للقضاء فهذا يعني المزيد من التقهقر وضياع الحقوق.