دولنا والتهديدات الناعمة
الانهيارات لا تأتي من الخارج، فالأمم التي سادت ثم بادت لم تسقط بسبب التدخلات العسكرية الأجنبية وقوى الاحتلال؛ بل كان ذلك السقوط أولا وبالذات يعود إلى أسباب داخلية؛ فالقابلية للاستعمار هي التي تهيء الأرضية المناسبة للمستعمر، وبدونها لا يمكن استعمار أي شعب.
لقد فهمت الدول الكبرى هذه الحقيقة جيدا، وبالتالي بدأت في استبدال أساليبها القديمة المتمثلة في التدخل العسكري المباشر بأساليب أكثر حداثة ونعومة، بل أكثر خفاء أيضا، وهنا مربط الفرس كما يقولون؛ حيث يحتاج الوعي بهكذا أساليب إلى بصيرة نافذة ورؤية عميقة شاملة؛ فالتدخل العسكري واضح وضوح الشمس، وبالتالي فإنه غالبا ما تستجيب الشعوب لهذا التحدي بالمقاومة وهزيمة المحتل في نهاية المطاف، كما حدث في أفغانستان مثلا؛ أما بالنسبة للتهديدات الناعمة فهي خفية لا يشعر بها كل أحد؛ التهديدات الناعمة قنابل موقوتة قد لا ندرك آثارها المدمرة إلا لحظة الانفجار؛ التهديدات الناعمة هي وضع داخلي متأزم يستثمر من قبل أطراف خارجية لتحقيق مصالحها وتنفيذ مخططاتها.
ويأتي في مقدمة التهديدات الناعمة الاستفادة من الأوضاع الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية السيئة في عالمنا الإسلامي لإثارة النزاعات والصراعات والفتن الداخلية وتكريس حالة التخلف، ثم توظيفها من خلال ما تملكه الدول الكبرى أو ما بات يعرف بالمجتمع الدولي من وسائل ضغط وتدخل كبيرين في الشؤون الداخلية لدولنا، ويأتي على رأس هذه الوسائل مجلس الأمن وصندوق النقد الولي والبنك الدولي وغيرها.
المشكلة بالطبع ليست في الدول الكبرى التي تستثمر الأوضاع السيئة في دولنا؛ المشكلة عندنا حيث هيأنا الظروف المناسبة للتدخل؛ فارتفاع معدلات الفقر والبطالة والتفاوت الطبقي الفاحش؛ وحالات التهميش والإقصاء والإلغاء لبعض الفئات والمكونات الاجتماعية لأسباب دينية أو إثنية أو قبلية أو مذهبية أو غيرها؛ وغياب الحريات والديمقراطية والشفافية وحقوق الإنسان؛ وتفشي الفساد الإداري والمالي؛ كل هذه العوامل تساهم في ضعف الحصانة في أي دولة توجد فيها ضد أي من أنواع الفيروسات الناعمة التي تبحث عن المناطق الهشة في جسم الدولة.
من السهل أن نعلق كل مشاكلنا على شماعة الغرب والاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية؛ ولكن هذا هروب للأمام؛ فالحقيقة المرة أن داءنا الداخلي هو السبب؛ ومن هنا فإن مواجهة التهديدات الناعمة لا تأتي من الخارج، بل من الداخل، عبر الاعتراف بوجودها أولا و بالتنمية الشاملة المستدامة التي تعتبر الإنسان أهم مواردها؛ فتستثمر في تعليمه وصحته وحقوقه وتحسين أوضاعه المعيشية؛ وتركز على مبدأ تكافؤ الفرص الذي يطلق العنان لكل الطاقات الكامنة، وتساهم في توفير الحريات الأساسية لكافة المواطنين بما فيها من حرية التعبير والحريات الدينية وغيرها، وتدعم المشاركة السياسية الفعلية لهم، وتعاملهم على أساس هوية المواطنة الجامعة لكل مكونات المجتمع.
بدون ذلك ستبقى دولنا ومجتمعاتنا هشة مرشحة للتمزق والتفتت والانهيار في أي لحظة؛ فالسنة الاجتماعية الحاكمة دائما تقول: ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ (11) سورة الرعد.