كي يقل الضجيج ويكثر الحجيج
جاء في نهج البلاغة في خطبة للإمام علي في شأن الحج :
وفرض عليكم حج بيته الحرام الذي جعله قبلة للأنام يردونه ورود الأنعام ، ويألهون إليه ولوه الحمام ، جعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته وإذعانهم لعزته ، واختار من خلقه سمّاعا أجابوا إليه دعوته ، وصدقوا كلمته ، ووقفوا مواقف أنبيائه ، وتشبهوا بملائكته المطيفين بعرشه ، يحرزون الأرباح في متجر عبادته ، ويتبادرون عند موعد مغفرته ، جعله سبحانه وتعالى للإسلام علما ، والعائذين حرما ، فرض حجه ، وأوجب حقه ، وكتب عليكم وفادته ، فقال سبحانه " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " من أشد ما ابتلي به المسلمون إفراغ العبادات من مضامينها الحقيقية والتركيز على الأشكال دون الجوهر . وهذا يعود إلى الفهم القشري للإسلام الذي يتعامل مع الدين كأجزاء مفككة لا رابط ولا وحدة عضوية بينها . فالحج فريضة واجبة عند جميع المسلمين ، ولكن الوحدة الإسلامية التي يمثلها الحج تبقى فريضة غائبة أو مغيبة .
إن ما نشهده في الحج مثال حي على ما نقول ، حيث نرى غياب الأهداف التي رسمها الشارع لهذه الفريضة العظيمة من ممارسات الكثير من الحجيج ، ففي الطواف الذي يفترض أن يتشبهوا فيه بملائكة الله الذين يطوفون بعرشه ترى التزاحم وإبراز العضلات والرغبة في إنجاز السبعة أشواط في أسرع وقت دون أدنى تفاعل مع جوهر هذه العبادة التي ينبغي أن تحلق بالحاج في أجواء الملكوت الأعلى .
وتتكرر الصورة في المواقف الأخرى من السعي والوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة والرمي والذبح وغيرها .
ففي الرمي والذبح مثلا لا يتم استحضار المواقف الإبراهيمية العظيمة التي جسدت التوحيد الخالص والتسليم المطلق لله تعالى ، ولا يتم في السعي استدعاء صورة المرأة المؤمنة( هاجر ) التي أسكنها إبراهيم ( ع) وابنَها إسماعيل ( بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة ) ، والتي ظلت متمسكة بالله واثقة بوعده ،لم تيأس من روحه تعالى رغم قسوة الظروف التي كان ظاهرها يشعر بجفاف منابع الأمل .
لقد تسبب تغييب جوهر العبادات أثناء ممارساتنا لها إلى تحويلها إلى طقوس لا تغير من واقع المسلم شيئا ، بينما كان الهدف الأساس من الدعوة المحمدية الشريفة هو بعث الحياة الحقيقية في نفوس أتباعها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (لأنفال:24)
فأين هي الحياة والمسلمون في ذيل قائمة العالم ، يستبد بهم التخلف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي ؟
أين هي الحياة والمسلمون تنتهك حرماتهم وتستباح أعراضهم ودماؤهم ؟
إن أفضل سبيل لنشر الإسلام في العالم يتم عن طريق تغيير هذا الواقع المأساوي ، ولن يتم ذلك في الخارج ما لم تتغير الذهنية والنفسية التي ينطلق منها التغيير ، وما لم نُعد اكتشاف الدين من خلال النفاذ إلى أعماق مقاصده السامية ، واستسقاء منابعه الصافية ، والتعامل مع أحكامه نصا وروحا كوحدة لا تتجزأ .
وعندما يحدث ذلك سيكون لعباداتنا طعم آخر ، بل ستكون حياتنا كلها عبادة ، وسنكون من أرقى الأمم مصداقا لقوله تعالى
(وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران: من الآية 139)