حقوقنا والجماعات السياسية: بين التسييس والمبدئية
لم ترقى الحالة الشيعية في السعودية إلى الحالة الحزبية بمعناها السياسي بعد، لا لنقص في كفاءاتها وقدراتها، فالأحزاب المتناثرة في دول الجوار لاتحمل مائزاً جوهرياً، غاية الأمر أن (البيئة السياسية) هنا مغلقة عن كل مايقع خارج الدوائر الرسمية.. يضاف إلى ذلك أنه لايوجد افساح لتشكلات ذات طابع سياسي حر.
هذه (البيئة السياسية) حملت ذلك بعض الشخصيات الكفؤة، إلى الإعتناء بتوفير بعض الحواضن التي من شانها ترجمة بعض التطلعات الإجتماعية إلى تغيير فعلي على أرض الواقع، تتقولب هذه الحواضن في عدة أشكال، فقد تكون منتدى دوري أو (ديوانية جدية) أو مواقع أنترنتية، مساجد، دورات تأهيلية، مما يعد محاولة لبناء أرضية مؤهلة لاقتناص أي منفس رسمي مستقبلي.
هذه الحواضن في بعضها انبثاق لتوجهات فكرية ليبرالية أو متشكلة من خلفيات دينية مرجعية، وأخرى عبارة عن محاولات توفيقية بين افراد يحملون مشتركات بغض النظر عن منطلقاتهم الإيديولوجية.
يقف من وراء هذه التجمعات أصوات وأقلام ومجالس، تمثل الرصيد الجماهيري الذي تستمد منه هذه التجمعات شرعيتها الإجتماعية، ولقد رأينا في إحدى ابرز التجارب التي عرّفت وبشكل عملي معنى (الرصيد الجماهيري) كيف لعبت الجماهير دوراً في تحديد نتيجة انتخابات المجالس البلدية.
حيث تتبادل الجماهير وطلائعها التطلعات للوصول إلى واقع أفضل، فالجماهير تنتظر ممن تقف معه أو خلفه الموقف المعبر عن مطامحها وإرادتها، كما تعتاز الطلائع لمواقف الجماهير.. سواء موقف رسمي كالإنتخاب أو في موقف عفوي من كتابات أو إنطباعات على مجمل ادائها الإجتماعي. يندرج كل ذلك تحت إطار عملية تبادلية يجهد كل طرف في معركة حميمية للتأثير في الآخر استنهاضاً، توجيهاً، تحفيزاً أو تربيةً.
* * * * * * * * * * * * * * * * *
قبل عدة أيام تناولت بعض وسائل الإعلام تقرير هيومن رايتس، الذي يبدوا أنه ابدى نوعاً من التفاعل مع حيثيات الواقع، حيث عبر في بعض جوانبه عن الواقع المضطهد الذي يطفو عليه التواجد الشيعي في السعودية.
يتزامن هذا التقرير مع انسداد سياسي توقفت ازاءه بعض التحركات التي اعتدنا نشاطها في بضع السنوات الأخيرة، حيث يلحظ المراقب فتوراً أو شبه توقف يعتريها.
مايجب علينا معرفته، هل أن تراجع الحراك السياسي قرار اتخذته المجاميع، أم أنه توقف جراء انسداد الأبواب، وتجاهل رسمي تبلور على شكل قرارات وتصريحات؟
يبدوا أن الشق الثاني هو الجواب الغالب، لا أدلاً على ذلك التغيير الذي أقر سبت 14/02/2009 ، الذي عُد التغيير الأبرز على خارطة الدولة منذ تسلم العاهل السعودي عبدالله بن عبدالعزيز السلطة، حيث لم يتضمن أي رسالة توعز لشيعة السعودية المواصلة على ذات التحرك، بل كان التغيير رسالة سلبية الأثر على النشطاء الشيعة، مما ترجم إلى خيبة محبطة في أوساط شيعية أمتازت بنشاط ملحوظ ومدروس يستهدف الوصول للمشاركة الرسمية والإندماج في مفاصل القرار.
أعقب هذه الخيبة والمشاعر المحبطة، احداث المدينة (فبراير 2009)، التي تمخضت عن تحرك وفد نخبوي لم يلقى تقديراً في حدوده الدنيا من قبل الدولة، والتي تحمل على أرضها ملايين الشيعة، اعقب ذلك خطاب الشيخ نمر باقر النمر (13/03/2009) ، عبر عن الصوت الذي لم يقله الوفد ولم تكن الدولة ترغب في سماعه.
عوداً على تقرير هيومن رايتس، ياترى مالذي جعل من هذا التقرير مغايراً لماقبله، وذلك بشهادة بعض التحاليل (وقال متابعون ان التقرير الاخير يعد احد اقوى التقارير الحقوقية التي تتناول اوضاع المواطنين الشيعة في السعودية). [1]
يبدوا أن الشيء الذي أدى ليكن هذا التقرير (الأقوى) بعض الاحداث الرئيسية:
1- البقيع. فعلى مدى أربعة أو خمسة أيام، وقعت انتهاكات معنوية ومادية بحقوق الزوار الشيعة من القطيف والاحساء.
2- خطبة الشيخ نمر على خلفية أحداث البقيع. والتي تمثلت في موقف صريح وواضح تجاه الظلامات التي مازال الشيعة يقبعون تحت وطأتها، وأسهمت وبشكل فاعل في إعادة انتهاكات البقيع الى الواجهة مجدداَ بعد ان اعتراها الطمس والفتور.
3- اغلاق خمسة مساجد شيعية في مدينة الخبر. آخرها مسجداً يرتاده الشيعة الإسماعيلية (04/09/2009).
4- الإعتقالات. فإضافة (للسجناء المنسيين) اعتقل الكثيرين بعد أحداث البقيع وماتلاها من توترات في العوامية، اضافة الى معتقلين أحسائيين.
فلاشك أن لهذه الإحداث وزنها، ولكن استدراكاً لتاريخنا المنتهك، لابد أن لايغيب عنا أنه حتى لو لم تكن تلك الأحداث، التي مازالت تبعاتها قائمة وبشكل يومي، فإن هناك مايكفي مما يستحق حراكاً حقوقياً عالي النبرة.. حيث:
1- لايوجد اقرار دستوري رسمي للمذهب الشيعي، بل ما هو متضح وجود اقصاء سياسي، ديني واقتصادي.
2- ورود قوانين وتعميمات تتعدى وتنتهك وتقصي أهلية الشيعي.
3- تغييب واقصاء تام لمنهج دين وفق المذهب الشيعي من مدارس الدولة، بل عنوة على ذلك يتم تدريس المذهب السني المتضمن على اساءة للشيعي.
4- عدم وجود اي اجازة لممارسة خصوصيات المذهب الشيعي، كاجازة بناء الحوزات والمعاهد الدينية، وطباعة ونشر القوالب المعرفية الشيعية.
5- تقييد القضاء الشيعي، وابقائه في حدود شكلية، بل وممارسة القضاء السني على اتباع المذهب الشيعي في مختلف القضايا.
6- اجهاض محاولات البناء الديني للطائفة، آخرها منع (مجلس الاستهلال الشرعي بالقطيف والأحساء) الذي تأسس في 22/10/2006 وأحل في 22/11/2006 .[2]
7- منع أو تعقيد بناء المساجد والحسينيات، اللتي تعتبر الملمح الأولي والأساس والبديهي للوجود الديني.
8- منع المكون الشيعي من الظهور الإعلامي الرسمي، وممارسة الحظر عليه في الوسائل الأخرى.
9- تغييب الكفاءات الشيعية من التواجد في المناصب العليا أو السلك الدبلوماسي.
10- وجود معتقلين (سياسيين) بلا تهم.
11- التردي الإقتصادي الذي تعيشه قطاعات واسعة من ابناء المذهب على الرغم من أن ارضهم التي يعيشون عليها نبعاً يفيض بالخيرات لكل أرجاء العالم، مما نتج عنه كثيراً من المآسي والويلات.
هذا ما تنبه إليه بوعي تقرير هيومن رايتس، حيث جاء فيه: (وتعكس أحداث البقيع في جزء منها هذه التوترات القديمة والقائمة، لكنها أيضاً كانت بمثابة منفذ للتعبير عن الغضب في صفوف الشيعة (10 إلى 15 في المائة من السكان في المملكة) وهو الغضب المتراكم جراء التمييز الحكومي المنهجي في مجالات التعليم ونظام العدالة، والحريات الدينية بشكل خاص. ويواجهون أيضاً الإقصاء من التوظيف الحكومي. ومن جانبها ردت الحكومة بإجراءات قمعية تمثلت في أعمال توقيف ومداهمات على منافذ التعبير العلني عن الآراء الشيعية، بدلاً من سعيها للحوار منعاً للمزيد من المصادمات).
كل هذا يؤكد ان السنوات الماضية لم يطرأ فيها تغيير حقيقي، وإن التحليلات التي كانت توعز بعض التغيرات الظاهرية على السياسة الداخلية انها اتت جراء المتغيرات الدولية أثبتت مجمل الأحداث صوابيتها، مما يحتم علينا أن ننتبه إلى أهمية أن تتسم الجماعات السياسية بمصداقية في التعبير عما هو قائم، وتجنب الدعايات اللتي لاتستند على حقيقة قائمة... هذا من جهة، ومن جهة أخرى لاينبغي أن يكون معيار الرضا والقناعة لدى المهتمين والمشتغلين بالشأن السياسي هو (فتح الأبواب) وَ (التشرف بالزيارات واللقاءات) ، فهكذا معايير توغل بنا في الشكلية، حيث نحتاج إلى أن نعيد النظر في معايير (الرضا أو السخط) بمعايير تستند على حقيقة مايتحقق على أرض الواقع من تلك القائمة الطويلة من حقوقنا المسلوبة.
وبخصوص مجمل حقوقنا، فينبغي أن تكون بعيدة كل البعد عن التسييس، فهي حق أصيل لاينبغي لطرف أن يعبرها جسراً نحو الوصول إلى سرابات، فهي ليست مُشَرّعةٌ لأن تذوب في تكتيكات هذا أو أولئك، بل ان حقوقنا قضية استراتيجية غير قابلة للمساومة، أقل واجب تمليه علينا أن نرفعها في كل محفل ونبوح بها في كل مقال، (لنا حقّ فإن أُعطيناه وإلاّ ركبنا أعجاز الإبل وإن طال السُّرى)[3] .
أيضاً من الأهمية بمكان، أن يتم التفريق بين المكاسب اللتي يحصل عليها الأفراد السياسيون أو الجماعة السياسية، وبين المكتسبات اللتي يحصل عليها عموم المجتمع الذي هو في الأغلب أكثر عوزاً من أفراد الجماعة السياسية، فلو أن بعضاً من المتداخلين في الشأن السياسي حصل على منصب ما، فلا يعني ذلك أي مكسب مالم ينسحب نفع ذلك على ذوي الحاجة والمتضررين جراء تردي مختلف الجوانب، وليس بعض النماذج المتواجدة حالياً ببعيدة عن هذا.
فالجماعة السياسية اللتي نريد، هي تلك اللتي تتخذ من أحوال الضعفاء والمساكين والموعزين والمحرومين والمقهورين وكل المظلومين، وتتخذ من أخذ الحق ودفع الباطل معياراً تقيس به منجزها وتؤسس عليه استراتيجياتها وتكتيكها، فلاغاية للعمل السياسي (إلاّ أن أُقيم حقّاً أو أدفع باطلاً) [4]