التلاقح الفكري بين فكر البعث الفاشي والفكر السلفي
تتمثل نظرية حزب البعث الفاشي في كون ( حزب البعث حزب قومي علماني يدعو إلى الأنقلاب الشامل في المفاهيم والقيم العربية ، لصهرها وتحويلها إلى التوجه الإشتراكي ) . لذلك لم يؤمن حزب البعث بالطريق الديمقراطي في استلام السلطة بل اتخذ النهج الانقلابي طريقا للوصول اليها مهما كلف الثمن . وقد رأيناه كمثل على هذا التوجه يقف بالضد من ثورة 14 تموز 1958 ونهجها الديمقراطي ، في محاولة منه للقفز على السلطة بمختلف الطرق الارهابية ، حتى سنحت له الفرصة في 8 شباط 1963 ، وقام بانقلابه الدموي المشهور ، وسفك دماء آلاف العراقيين بمساعدة ثنائية مشتركة كان لإدارة المخابرات المركزية الأمريكية ( CIA ) الدور الرئيسي فيها ، وبخبرات وسلاح مصر عبد الناصر آنذاك . وبعد فشلهم المريع وانقلاب عبد السلام محمد عارف عليهم لجرائمهم التي ازكمت الانوف ، وأدت بحليفهم الرئيسي عبد السلام عارف أن يسمي ( الحرس القومي ) الذي كان اول من ارتدى بزته مزهوا به ، ب ( الحرس اللاقومي ) ، لما اقترفه ذلك الحرس من جرائم لا يمكن لا عبد السلام عارف ولا لغيره التغطية عليها ، عندما انقلب عليهم يوم 18 تشرين 1963 . وعادوا مرة اخرى لينقلبوا على أخيه ووريثه في السلطة عبد الرحمن عارف في 17 تموز 1968 ، للخطأ السابق نفسه الذي اقترفه الشهيد الزعيم عبد الكريم قاسم ، بسبب عدم تصفية حزب البعث واجتثاثه من أرض الرافدين ، وانهاء ذلك الفكر الشوفيني الفاشي الانقلابي .
واذا تمعنا جيدا في مبادئ حزب البعث نراها في كثير من المواقف تتشابه كلية مع الفكر السلفي وتلتقي معه في الكثير من الممارسات ، ففي نظرية ( الولاء والبراء ) لأبن تيمية وهو المرجع الأول للفكر السلفي ، نراه يرفض رفضا قاطعا كل ما هو غير سلفي من خلال ( التفويض الآلهي أو الحق الآلهي في السلطة ) . وهو نفس فكر البعث الذي ينفي الآخر في المشاركة في السلطة بموجب مقولة ( الحزب القائد ) . فالخطاب الديني السلفي لا يعترف بالتعددية الدينية ، او المذهبية ، أو الفكرية . أي ثقافة كره وتطرف وتكفير للآخرين ، والغاء الآخر كما البعث وإقصائه كلية من خلال الفتاوى والحجج الدينية المقتبسة من الكتاب والسنة بطريقة انتقائية ، تتعارض والمبادئ الحقيقية للدين الحنيف . ومثلما فعل البعث في حشر مواد الاعدام في القانون العراقي بين مادة واخرى جرى استخدام التكفير للآخرين من قبل الفكر السلفي ، والقول ب ( الردة ) لتصفية الخصوم الدينيين ، او السياسيين متخذين من الآية القرآنية ( ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) . وبذا تشابه الاثنان في الدعوة باحتكار السلطة ونفي الآخر ، هذا بالحق - أي البعث - العروبي ، وذاك بالحق الآلهي .
وقد صرح صدام حسين بذلك علانية وبين جمع من الناس في العام 1969 وفي ملعب الكشافة ببغداد ، عندما قال مقولته الدموية ( لقد جئنا للسلطة بالدم ، ولن نخرج منها إلا بالدم ) ، وأصبحت مبادئ وموالاة البعث تقوم أساسا على العنف والجريمة المنظمة ، وتأييد ( القائد ) مهما كانت أفعاله وجرائمه وأقواله . وهي نفس فكرة الجانب السلفي التي يؤكدها ابن تيمية التي تقول بأن ( المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك وإعتدى عليك ، والكافر تجب معاداته وإن اعطاك واحسن اليك ) . وبمقارنة الفكرتين نرى تطابقهما من حيث المبدأ والفعل .
وقد ظهر التلاقح الفكري بين الجانبين في الحالة العراقية الراهنة قبل الحرب على النظام الدكتاتوري الفاشي الذي يقوده حزب البعث في العراق ، وبعد سقوط النظام ، حيث تقاطرت اسراب العناصر السلفية من كل حدب وصوب بإتجاه بغداد لنصرة الحاكم الظالم بحجة الدفاع عن الدين ، وجرى تحالف بين مفاهيم البداوة التقليدية المتخلفة لرجال الحرس الخاص والحرس الجمهوري وفدائيي صدام ، وبين العناصر السلفية التي هرعت لنجدة الحاكم ( " المؤمن " الذي تجب موالاته وان ظلمك ) . واستمع ( الجهاديين ) بموجب شهادة معلم البقاع اللبناني الذي تسلل للعراق والمنشور في " إيلاف " نقلا عن جريدة الشرق الاوسط اللندنية لعراقي مسؤول عن مجموعتهم ، وهو يصنف انواع ( الجهاد ) بثلاث طرق أفضلها وثالثهما كما يراه ( المفتي ) البعثي هو ( قيادة سيارة مفخخة ) ، اما النتيجة فلن تكن في بال أي منهما بعد أن اشبعه مفكرو التيار السلفي بفتاواهم العديدة حول ( الجهاد ) ، وتغذية افكار الشباب المحروم من مباهج الدنيا ، او من يغلف عقله الجهل كالزرقاوي بصور وصفية مغرية له وهو بصحبة حوريات الجنة ، وهو ما صرح به والد احد الموقوفين الكويتيين ( ضاري الزهاميل ) الذي لم يبلغ السابعة عشر من عمره نقلا عن ابنه ب ( انه ارتكب خطأ ) لأنهم كما قال : ( جعلوني أرى نفسي في الجنة مع الحوريات) . لذلك أسرع الشيخ سلمان العودة ، وهو احد الموقعين على فتوى ( جهاد العدو في العراق ) ضمن جوقة آل ( 26 ) شيخا من الشيوخ السعوديين إلى الاستنجاد بالشرطة لارجاع ولده الذي ذهب منفذا وصية والده ب ( الجهاد في العراق ) ، فهو يعرف قواعد اللعبة تماما ولا يريد لفلذة كبده ان يقع ضحية لها .
وجاء التلاقح البعثي – السلفي كنتيجة حتمية لإقرار الفكر السلفي بشرعية الأنظمة الحاكمة أي كانت نظمها ، ووجوب طاعة الحاكم وفق تفسير متعمد للآية القرآنية ( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) ، لذلك أعتبر القتل العمد للاطفال والشيوخ والنساء والجنود والشرطة العراقية جهادا بموجب شريعة ( المجاهدين ) من اهل السلف ، والخطف والسلب دفاعا عن العروبة و( الوطن )بموجب مبادئ رجال البعث الذين يمثلون الجانب العراقي من التحالف الغير مقدس بينهم وبين العناصر السلفية التي تسللت للعراق . وقد مثل الجزء البعثي من هذا التحالف معظم قادة افراد الحرس الجمهوري والحرس الخاص وفدائيي صدام ، وكبار القادة البعثيين ممن كانوا من اول المنتفعين بوجود نظام صدام حسين الدكتاتوري الشمولي ، وجلهم من عشائر البونمر التي تقيم غرب الرمادي، وهي عشائر ذات تاريخ اسود في النهب والسلب ، والتي يمتد نفوذها حتى الرطبة على الحدود الاردنية السورية ، كذلك من العشائر التي تقيم على يسار الفرات وامتدادا لبادية الشام كالمحاميد والبو عيسى والبو خليفة . وهو احياء لمفهوم جاهلي في القتل والنهب والسلب باسم الدفاع عن الدين والعروبة . لكن هذا العمل بالنسبة للسلفيين يفسر بموجب المنطق العقلي ( حلم الماضي الذي يودون عودته ، ورفض تام لكل ما للمستقبل من تطورات ) ، بينما هو للبعث ( رفض تام للتوجه الديمقراطي وحلم العودة للنظام الدكتاتوري الشمولي القمعي ) .
أي توافق الاثنين البعث ورجال السلف على رفض تام لكل عملية تغيير تمس البنى التحتية للأنظمة الشمولية ، وعودة للماضي مصحوبة بفرض قسري على قبولها ، بكل أشكال القهر والتخلف ، ومهما كلف ذلك من انفس واموال ، وحتى إبادة شعوب بأكملها اذا تطلب الامر ذلك .