العلماء الأحرار.. أبو ذر الغفاري مثالاً

منتظر الشيخ أحمد

لا توجد سلطة سياسية تستطيع البقاء إلا بشرعنة العلماء لها، لهذا جاء توجيه القيادة الرسالية للمجتمع بالتحذير من علماء السوء اللذين يعطون شرعية للسلطات السياسية في تعديها وظلمها و نهبها لحقوق الناس.

 و لهذا تحمّل القيادة الرسالية المجتمع مسئولية (التدقيق لاختيار القائد الذي يتبعه)، وذلك لأن القيادة التي و كلت للعلماء في زمن غيبة الإمام المنتظر( عجل الله تعالى فرجه) تتحمل مسئولية توجيه المجتمع نحو الثقافة الرسالية الأصيلة، كما يقع على عاتقها مسئولية الدفاع عن أحكام الله.

 فهذا التاريخ يحدثنا عن العلماء الذين تخرجوا على يد الأئمة المعصومين و كان لهم الدور الريادي و القيادي الجهادي في الساحة، و الذي أزعج سلاطين الظلم و الجور، فصارت السلطات الظالمة تطاردهم كما المجرمين، و تهجرهم من بلد إلى بلد، حتى صارت قبورهم موزعة في مشارق الأرض و مغاربها.

 هؤلاء العلماء الذي نذكر منهم أبو ذر الغفاري في زمن أمير المؤمنين و الذي جعلته مثال مقالي هذا، كذا منهم أبي حمزة الثمالي و سعيد بن جبير  و غيرهم الكثيرين، الذي يحدثنا التاريخ عنهم و عن بطولاتهم في الدفاع عن أحكام الله و قيم السماء، فبأمثال هؤلاء العلماء الذين حفظوا آثار النبوة و أبقوا على أحكام الإسلام و نشروا مبادئه وتعاليمه وزرعوا حب آل البيت في النفوس.

  •  أبو ذر الغفاري مثالاً لشجاعة العلماء:

عالماً رسالياً و فارساً شجاعاً حمل على عاتقه هموم المظلومين و المعذبين، فكان منبراً يمثل الشجاعة في حرية الرأي و التعبير، و عالماً محامياً عن أحكام الله، فاضحاً للظلمة و المنافقين.

 فعند قريش لم تمنعه أصنامهم و لا ذئابهم عن توسط المسجد الحرام و الجهر بإسلامه منادياً (أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله) حتى ثار عليه القوم و ضربوه حتى أضجعوه.

 و عند إسلامه تشهد له السيرة بشجاعته و ورعه و علمه، فقد وكل إليه رسول الله مهمة التبليغ عند قومه لثقته به، فكان خير ممثل لرسول الله عند غفار، فقد تربى على يده، وربى جيل رسالي جهادي يفدون أنفسهم في سبيل الرسالة و لا يعدلون عن بيعة الحق بجاه أو دراهم أو قصور أو رئاسة.

  •  الأقلية الشيعية.. والدفاع عن قيادة السماء:

لم يتخلف أبي ذر الغفاري(ض) عن بيعة، فقد ثبت على بيعته الأولى في زمن رسول الله لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب، لهذا لقب بـ(الشيعي) هو و أربعة من أصحاب رسول الله:

قال الشيخ المفيد رحمه الله ، في بيان إمامة أمير المؤمنين علي فاختلفت الأمة في إمامته يوم وفاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقالت شيعته ، وهم : بنو هاشم كافة ، وسلمان ، وعمار ، وأبو ذر  . . الخ .

 وقال اليعقوبي ، حول الموضوع ذاته: وتخلف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار ، ومالوا مع علي بن أبي طالب . منهم : العباس بن عبد المطلب ، إلى أن قال : وأبو ذر الغفاري ، وعمار بن ياسر  . . الخ ما ذكره[1] .

 أبو ذر الذي لم يخفي إسلامه حتى تلقى ضربات قريش، كذلك لم يخفي تشيعه حتى نفي إلى الربذه و مات جائعا هناك، فهذا المستدرك ينقل لنا صورة عن ذاك العالم الشجاع عن حنش الكناني ، أنه قال :  سمعت أبا ذر يقول ـ وهو آخذ بباب الكعبة ـ : أيها الناس ، من عرفني ، فأنا من عرفتم ، ومن أنكرني ، فأنا أبو ذر ، سمعت رسول الله يقول :  ألا إن مثل أهل بيتي فيكم ، مثل سفينة نوح من قومه ، من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق [2].

  لقد كان صلباً قوياً ، متفانياً في سبيل ذلك . وكأنه في موقفه هذا ، يفسر لنا بيعته لرسول الله   .  أن لا تأخذه في الله لومة لائم ، وأن يقول الحق ولو كان مرا [3].!

 لقد قاوم أبو ذر السلطات القائمة التي لم تسمح عقيدته في أهل البيت أن يعطيهم الشرعية أو يداهنهم حتى مات هناك من الجوع.

 لقد عرض عليه أتباع عثمان مبالغ كبيرة بغية العدول عن مواقفه التي كان فيها يدعو إلى محاربة الظلم والمفسدين من بني أمية وبني مروان حيث أجابهم مستهجناً بما يدعوه إليه قائلاً: أنا لست فقيراً حتى تغروني بهذه الدراهم والدنانير وإن كنتم لا ترون في بيتي إلا أثاثاً بسيطاً ومتاعاً معدماً فأنا من أغنى الناس فقالوا له مستغربين: ومن أين هذا الغنى الذي تدعيه؟ أجابهم : إني غني بحبي لعلي بن أبي طالب.

أبي ذر الغفاري (رضوان الله عليه) الذي تحمل الصعوبات في سبيل تبليغ رسالات الله (سبحانه وتعالى) كما قال سبحانه: (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله)[4] فتحمل الجوع والفقر والمرض و التبعيد وغير ذلك لكنه تمكن من تغيير المفاهيم الجاهلية إلى المفاهيم الإسلامية التي جاء بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) فإنه وإن مات جوعاً في الربذة في حالة غربة وتشريد، لكنه ركز لواء الإسلام وجعل من نفسه علماً إلى هذا اليوم.

 حري بنا عندما نقول هناك عالم أن ننظر للعالم كما ننظر لهذا العالم الشجاع الذي لم يقبل أن يعطي تلك السلطات أي شرعية في ممارسة الظلم و الجور وبقي ثابتاً على بيعته الحقة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب و دافع عن قيادة السماء بكل شجاعة، و مات وهو ثابتٌ على تلك المواقف رغم ما لقاه من أذى، إلى أنه من أجل التغيير و من أجل رفع الإصر عن الناس تحمل ذلك، فصار أبي ذر علماً يذكره التاريخ و يتربى بسيرته الرساليين و المجاهدين

[1] سلسلة الأركان الأربعة(1)- محمد جواد آل فقيه

[2] 1 ـ المستدرك / 3 / 150 ـ 151 نقلاً عن كتاب سلسلة الأركان الأربعة(1).

[3] نفس المصدر

[4] سورة الأحزاب: الآية 39.