نصب الغرباء


 ليس هذه الحياة التي كنت  أتوقعها على كل حال !!..

ولكنها الحياة المتاحة حتى الآن ,,,أفضل أنني ولدت في أسبانيا أو في المغرب أو حتى في موزمبيق ولكن لا بأس أن يولد الإنسان  هنا قريباً من هذا الساحل ليحظى بسعادة النظر للأمواج السرمدية  في الصباح والمساء .., ويملأ عينيه بصورة هذا النصب التذكاري العظيم  الذي يبنيه الغرباء ,, ..فالغرباء  يبنون نصبهم  الحديدي قرب ساحلنا ..ولكنهم  مشغولون الآن في تحديد  ملامح وجهه وطول أنفه وسعة فمه ومظهر أسنانه ,, وهم على هذا الحال منذ سنين ..

الخبير الأجنبي  المشرف على بناء النصب  يكره أن تكون ملامحه كملامح أبي الهول .. فهو يفضل أن يكون فم النصب مثلاً  مفتوحا كثيراً وعيناه ضيقتان وحاجباه مرتفعان وشفتاه  بارزتان وأسنانه مطبقة بعنف حتى يلائم  الزمن ويتماشى مع صرامة التفكير وعادة الاعتداد بقتامة الأفكار النمطية  التي كانت تسود العصور  ..

لكن البعض منهم  مستعدٌ للجدال في هذه النقطة بالذات , فالفم  الكبير والأسنان النافرة  تقذف الرعب في القلوب .. إذ لا حاجة إلى ما يبعث على الحب و التعاطف ,فهذه في نظرهم مسائل ثانوية يمكن تدبرها ببعض المتفلسفين ,,

والبعض مصمم على أن يزينوا النصب بذقن مستعار ونظارات جميلة وإعطائه ابتسامة رحيمة حانية  تضفي على المجسم مسحة دينية ومشاعر أبوية وطابع ثقافي يتناسب مع هيئة المثقفين الذين يلوكون الكلمات المنمقة في الفترات المسائية ..

المضطلعون على خفايا الأمور  يرجحون أن  تنتهي المناقشات ويبقى النصب فاتح فمه غير عابئ  بوجهة نظر المثقفين ..فالفم الضخم والأسنان المعبرة  هي موضة ربع القرن الأخير في منطقتنا ..

وهي تضفي مسحة من الجبروت المنبعث من قوة الثقة في النفس ..

 حين يسمح وقتي في الظهيرة أستلقي على ظهري قرب الساحل وأتأمل النصب و النجوم  ..

إنها هواية اكتشفها البسطاء في هذه البقعة من العالم " فقد اكتشفوا وبالصدفة بعض المزايا وأمور غريبة تحصل بالقرب من النصب " .. أكثرها غرابة  أن أكثرهم يدعي أنهم يرون النجوم في الظهيرة بالقرب منه وهذه حقيقة  لا مراء فيها .. وأصبحت هواية النظر للنجوم في عز الظهيرة متعتهم المفضلة .. إضافة إلى تلقي لسعات الشمس  والعمى المبكر الناتج عن البحلقة في الأفق والسديم   ..

ليس الوقت مناسباً لمناقشة هذه الاعتقادات ,, والناس أحرارٌ فيما يعتقدونه ,,لكن بالطبع أستطيع أن أؤكد وبالفم الملآن أن أي ساعة أو أي جهاز لقياس الوقت والزمن يتعطل بمجرد الاقتراب من هذا المجسم المعدني الشاهق ..

والبعض يقسم أن عقارب الساعة  تمشي في الاتجاه المعاكس كلما اقتربنا من قلب هذا النصب  ذي الملامح المستعصية على التفسير والتأويل ..!!

النصب الآن  يقوم بحراستنا وتنظيم حركة هوائنا وظلنا ومائنا وسواحلنا وأمنياتنا وحتى دمى الأطفال عاجزة عن شكر رعايته الحانية التي تفوق التصور حتى في الأحلام ..

يمنع عوي الريح تداعى  الأفكار في خاطري .. ولكنها  أفكار غريبة  على كل حال مثل عمل نصب تذكاري آخر للأفكار الجيدة الخائفة و الشاردة بهلع  نحو البرية ..

 يقول العارفون أن هذه المنطقة الوحيدة في العالم التي يستطيع الناس النظر للنجوم والشمس والقمر   في وقت الظهيرة  ومن ثقب واحد فقط ..

 يا لبؤس الشعوب المجاورة كيف تستطيع حل مشاكلها في الصباح ثم تنام ملئ أجفانها في المساء ودون نصب معدني  كنصبنا  العزيز ..

من هنا وعلى الساحل أعبر عن عجزي  عن تفسير ابتسامة الغرباء ونظراتهم ..

ملامح النصب الغريبة وشواربه المستدقة وأياديه  الطويلة وأظافره الدبقة ومخيلته الخصبة التي تشف من عينيه الضيقتين و أصابعه المستدقة  كلها تبعث الحاجة في التأمل والانعتاق  ..

الوقت يمر بسرعة وهؤلاء  التعساء يتناقشون في شكل شوارب النصب وحجم منخريه وكيف تكون ملامحه وابتسامته وغطاء رأسه ,,
وهم يجربون كل المقترحات على أشكال طينية  مؤقتة ,,

والأفكار معين لا ينضب , ولكنها الحيرة التي تنتاب  هؤلاء الناس الغرباء ,, فهم سادرون في نقاشات طويلة ومملة ومسقمة .. فيما النصب الحديدي واقف بدون ملامح وبدون  عيون وبدون قلب ..

ربما يطول الزمن أو يقصر قبل أن يتفق خبراء النحت .. ولكن الناس البسطاء لا يعبئون  .. فكل شخص يتخيل ملامح النصب حين يقف أمامه  ولا يشعر بأي حاجة  لكل هذه الجلبة ولكل هذه الاجتماعات ,,..

ها أنا ذا أرى ملامحه وأشعر بها  تخترقني  ,, رغم أنني عاجز عن وصفها بالكلمات ..

لكني أيضاً لا أرى أن النصب يحتاج إلى أي إضافة ..

فالزمن وحده كفيل أن يكشف ملامحه ..