يوم غدير خمّ أفضل أعياد أمّتي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين, واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين.
طبقاً للروايات الإسلامية فإنّ عيد الغدير هو أعظم أعياد الله تبارك وتعالى.
فقد روي عن الرسول الكريم أنّه قال: «يوم غدير خمّ أفضل أعياد أمّتي, وهو اليوم الذي أمرني الله تعالى فيه بنصب أخي علي بن أبي طالب علَماً لأمّتي يهتدون به من بعدي، وهو اليوم الذي أكمل الله فيه الدين وأتمّ على أمّتي النعمة, ورضي لهم الإسلام ديناً».
وعن عبد الرحمن بن سالم عن أبيه قال سألت أبا عبد الله : «هل للمسلمين عيد غير يوم الجمعة والأضحى والفطر؟ قال: نعم، أعظمها حرمة، قلت: وأيّ عيد هو-جعلت فداك-؟ قال: اليوم الذي نصّب فيه رسول الله أمير المؤمنين ، وقال: من كنت مولاه فعليّ مولاه. قلت: وأيّ يوم هو؟ قال: يوم ثمانية عشر من ذي الحجّة».
لقد أشار الله تعالى إلى هذا اليوم فقال: «اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ, وَأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي, وَرَضيتُ لَكُمُ الإسْلامَ ديناً». وحسب هذه الآية الكريمة, فإنّ كمال الإسلام حصل عندما أعلنت ولاية علي كفريضة.
كما روي عن الإمام جعفر الصادق قوله: «وكانت الفرائض ينزل منها شيء بعد شيء، تنزل الفريضة, ثم تنزل الفريضة الأخرى، وكانت الولاية آخر الفرائض, فأنزل الله (عزّ وجلّ): اليَوْمَ أكْمَلْتُ... يقول الله (عزّ وجلّ): لا أنزل عليكم بعد هذه الفريضة فريضة، قد أكملت لكم هذه الفرائض».
لقد أنزل الله (عزّ وجلّ) الأحكام والواجبات الواحدة تلو الأخرى حتى ختمها بالولاية، لأنّه عندما تمّ بيان هذا الحكم، أنزل الله هذه الآية «اليَوْمَ أكْمَلْتُ..»، ليعلن أن لا فريضة بعدها، فبعد نزولها وتنصيب أمير المؤمنين خليفة لرسول الله أدرك الناس مراد الله تعالى من الآية الكريمة: «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم»، وعلموا أنّ عليهم بعد رسول الله الامتثال لطاعة أمير المؤمنين وأبنائه الطاهرين .
ويقول الإمام محمد الباقر : «آخر فريضة أنزلها الله الولاية: لليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ, وَأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي, وَرَضيتُ لَكُمُ الإسْلامَ ديناً».
إذن، فريضة الولاية كانت آخر فريضة أنزلها الله تعالى، ومن ثمّ قُبض .
الغدير ووفور النعمة
ممّا يثير الانتباه في هذه الآية الكريمة أنّ الله تعالى قد ربط إتمام نعمته على الخلق بموضوع الولاية، أي كما إنَّ تحقّق كمال الدين ارتبط بالولاية فإنّ إتمام النعمة أنيط بإعلانها من قبل رسول الله (). والمقصود بالنعمة جميع النعم، ظاهرها وباطنها مثل العدل, والمساواة, والاتحاد, والأخوة, والعلم, والأخلاق, والطمأنينة النفسية والروحية, والحرية, والإحساس بالأمن، وبعبارة موجزة جميع أنواع العطايا.
لذا، فموقف الذين سعوا إلى تفسير النعمة بالشريعة والولاية واعتبارها مجرّد مسألة معنوية محلّ تأمّل ونظر، لأنّ الآية المذكورة لم تتطرّق لمسألة أصل النعمة، بل الحديث يدور حول «إتمام النعمة»، وأينما ورد ذكر إتمام النعمة في القرآن الكريم كان المراد منها النعم التي يصيبها الإنسان في الدنيا، ومن هنا توجد علاقة مباشرة بين ولاية أمير المؤمنين علي (عليه السلام) والتمتّع بالنعم الدنيوية، وإحدى الشروط المهمّة والرئيسية-للوصول بنا إلى مجتمع الحرية والبناء القائم على أساس العدالة, والأخلاق, وسيادة القيم والفضائل الأخلاقية الإنسانية-أن نسلّم لما بلّغ به رسول الله (صلى الله عليه وآله) في يوم الغدير، وأن نقبل عملياً بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، بعبارة أخرى: إنّ الأخذ بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، له أثر تكويني، ويوجب سبوغ البركات والخيرات على الناس من الأرض والسماء.
لو أردنا أن نشرح الغدير في عبارة موجزة نقول: الغدير هو الوعاء الذي تصبّ فيه جميع تضحيات الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله)، وهو مخزن الأحكام والآداب التي أوحى الله تعالى بها إلى رسوله الأمين، وفي إشارة إلى هذه الحقيقة يقول (جلّ وعلا): «يا أيُّها الرَّسولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ, وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَه».
والغدير روضة الفضائل, والأخلاق, والمكارم, والمحاسن, بل هو المكارم بعينها، ويدين له بالفضل التطور الحضاري والمعنوي, وذلك لأنّه كان أهمّ عامل في حفظ كيان الإسلام والدين، ويعدّ إنكاره بمثابة إنكار لجميع القيم الإسلامية السامية الممتدّة على أرض الإسلام الواسعة.
على هذا، كلّ عقيدة لا تغرف من معين الغدير فإنّها على وهن وفاقدة للأساس، والغدير بجوهره وروحه يعني مدرسة أمير المؤمنين التي تصلح لإسعاد البشر أجمع. فأمير المؤمنين هو بعد الرسول أعظم آيات الله (عزّ وجلّ) ولا تضاهيه آية، وفي هذا يقول الإمام الباقر للّذي أراد سبر معرفة الله بدون أمير المؤمنين (عليه السلام): «فليشرّق وليغرّب»، أي لن يبلغ غايته ولو يمّم وجهه شرقاً وغرباً.
الغدير والتعاطف مع الناس
إحدى خصال الإمام علي خاصة في فترة خلافته هي تعاطفه مع الناس، ويتجلّى تعاطفه مع أفقر الناس من خلال عمله، وقد قال: «ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه».
فهو لم يضع حجراً على حجر، ولم يسكن قصراً فارهاً, ولم يمتطِ فرساً مطهّماً، وتحمّل كلّ المصاعب هذه لئلا يكون هناك فرد في أقصى نقاط دولته يتبيّغ بفقره، لا يجد حتى وجبة غذاء واحدة تسدّ رمقه، وهو القائل: «ولعلّ هناك بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع». لذا، فإنّه لمجرد أن يحتمل وجود أفراد في المناطق النائية من رقعة حكومته جوعى، لم يكن ينام ليلته ممتلئ البطن، وقد حرم نفسه حتى من متوسط الطعام, واللباس, والمسكن, ولوازم الحياة العادية.
أراد الإمام علي بنهجه هذا تحقيق هدفين: الأول: أن يُبعد عنه أي شبهة-باعتباره حاكماً إسلامياً-ويسلب منتقديه أي حجّة تدينه، هؤلاء المنتقدين الذين أنكروا عليه حتى مناقبه.
والهدف الثاني: هو تذكير الحكّام المسلمين بمسؤولياتهم الخطيرة تجاه آلام الناس وفقرهم في ظلّ حكوماتهم، وضرورة إقامة العدل والتعاطف مع آلامهم ومآسيهم، والسعي بجدّ من أجل تأمين الرفاهية والعيش الكريم لهم.
من هذا المنطلق، فإن مجرّد احتمال وجود أناس يتضوّرون جوعاً في أبعد نقاط الحكومة الإسلامية يعتبر في ميزان الإمام علي مسؤولية ذات تبعات، لذا فهو يؤكّد على الحكّام ضرورة أن يجعلوا مستوى عيشهم بنفس مستوى عيش أولئك، وأن يشاركوهم شظف العيش.
مبادئ مدرسة الغدير
وهي مبادئ واسعة وعميقة لدرجة أنّه لا يستطيع أحد الإحاطة بها وبكنهها جميعها، إلاّ بقبسات منها مشعة.
ومن أقوال الإمام علي ، على سبيل المثال، ألفت نظركم إلى العبارة التالية الموجزة الكلمات والعميقة الغور: «والله لو أُعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت».
النقطة البالغة الأهمية التي تتضمّنها هذه العبارة أنّ الإمام قد استخدم كلمة «لو»، وهي كما يذكر علماء اللغة ليس مجرد حرف شرط، بل حرف شرط يدلّ على امتناع لامتناع، أي امتناع الجواب لامتناع الشرط، يقول الله (عزّ وجلّ) في كتابه العزيز: «لَوْ كانَ فيهما آلِهَةٌ إلاّ اللهُ لَفَسَدَتا»، أي لو كان في الأرض والسماء آلهة غير الله (عزّ وجلّ) لانفرط عقد الكون، ولكنّ الأمر ليس كذلك، فالسماوات والأرض باقيتان على حالهما ممسكتان، إذن ليس فيهما آلهة إلا الله، فحرف (لو) يدلّ على أن ما بعده من الشرط غير ممكن.
وهكذا نحو قولنا: لو كان لي جناحان لطرت بهما، فانتفى طيراني لعدم امتلاكي جناحين. فـ (لو) ابتداءً تدل على انتفاء مدخولها، من هنا، يكون معنى قوله «والله لو أعطيت...»: أي إن عصياني لله تعالى في ظلم نملة-بهذا المقدار القليل-لا يمكن تحققه حتى إذا أعطية مقابله الأقاليم السبعة، وهذا المعنى يؤشر عليه حرف (لو).
فالإمام غير مستعدّ للفوز بملك الأقاليم السبعة في مقابل معصية الله, ولو في سلب قوت نملة واحدة.
ونقطة ثانية مهمة في العبارة المذكورة: هي استخدام كلمة «جلب شعيرة»، وهي قشرة حبة الشعير الرقيقة، والتي تنزع عنها تلقائياً، ولو كان يوجد ما هو أتفه وأقل شأناً من جلب الشعير، لقارن الإمام به.
من هنا، فقد أقام الحجّة على جميع الحكّام وولاة الأمر، واضعاً إيّاهم أمام مسؤولياتهم الخطيرة، هؤلاء الحكّام الذين لا يتورّعون عن ارتكاب أية جريمة، فيبيدون الحرث والنسل، ويزهقون الآلاف من الأرواح الطاهرة البريئة من أجل شبر من الأرض، أو مال قليل، أو بلوغ المناصب، والتمتّع بحطام الدنيا الزائل.
حسب ثقافة الغدير، فإنّ في سلب النملة جلب شعيرة معصية، فما بالك بقتل الأفراد بالظنّة والشبهة، في النقطة المقابلة نجد المنطق الأموي والعباسي الذي كان يعاقب الأفراد بتهمة حبّهم لعلي ، ويقمع الخصوم الفكريين لأدنى شبهة.
والحكام السابقون للإمام علي أيضاً كانوا يسيرون على هذا النهج نفسه ـ أي نهج الحكام الأمويين والعباسيين ـ حيث كانوا يخنقون أصوات المعارضين لأتفه الأسباب، فمثلاً أرسل أبو بكر جيشاً بقيادة خالد بن الوليد للإجهاز على معارضيه، وقد أدّى خالد المهمّة بوحشية وبشاعة, بإهراقه دماء فريق من المسلمين في حروب سمّيت «بحروب الردّة»، وتحت ذريعة محاربة المرتدّين، إلاّ أنّ معظم الذين سفكت دماؤهم من قبل خالد وجيشه كانوا من المسلمين الأبرياء، ولم تكن تهمة الارتداد سوى ذريعة.
بل إنّ الأساليب التّي اتّبعها خالد في حربه ضدّهم كانت مخالفة تماماً لنهج الرسول الكريم وتعاليم الإسلام، وتتلخص أساليب خالد في قتل المسلمين: بقذفهم من المرتفعات والأماكن العالية، وحرقهم وهم أحياء، والتمثيل بهم، وقطع أوصالهم، وإلقائهم في الآبار، في حين كان الرسول الكريم ينهى عن المثلة حتى بالكلب، وبهذا يوصي الإمام علي أهل بيته محذراً إيّاهم من التمثيل بقاتله، بقوله: «..فإنّي سمعت رسول الله يقول: إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور»، وهذا غيض لفيض من الفظائع التي ارتكبها خالد وهو منطلق بأمر أبي بكر.
الغدير والمشاعر الإنسانية
بركة أخرى من بركات الغدير هي الوقوف على الجانب العاطفي من شخصية الإمام علي والأئمة ، الذين نصّبهم رسول الله لخلافته من بعده، ففيهم تتجلّى الرحمة الإلهية على الخلق، وهم التجسيد الحيّ لأسمائه الحسنى، حيث ورد في بعض الروايات أنّ الآية الكريمة: «وَللهِ الأسْماء الحُسْنى فادْعوهُ بِها» نزلت في شأنهم.
فمن شفقة أمير المؤمنين على الخلق أنه أعطى طعامه للأسير واليتيم والمسكين, وبات جائعاً هو وزوجته وولداه الحسن والحسين أجمعين ثلاثة أيام متواليات، ولم يكن طعامهم سوى أقراص خبز.
وعلى فراش الشهادة أوصى بإعطاء مقدار من الحليب الذي كان يتناوله كدواء لقاتله ابن ملجم، وأن لا يُبخس حقّه في المأكل والمشرب والمكان والملبس المناسب. بل كان يطالبهم أن يعفوا عن ابن ملجم حيث قال لهم: «إن أعف فالعفو لي قربة, وهو لكم حسنة فاعفوا، ألا تحبّون أن يغفر الله لكم».
يروي المؤرخون أنّه بعد استشهاد الإمام علي كانت له درع مرهونة عند يهودي، بينما بلغت أموال عثمان بن عفان بعد مقتله 150 ألف دينار ومليون درهم، وكانت لعثمان أيضاً أملاك في وادي القرى وحنين ونواحي أخرى تقدّر بـ200 ألف دينار، هذا بالإضافة إلى أعداد كبيرة من الإبل والخيل.
فلتقارن هذه الثروة العظيمة التي خلّفها عثمان مع الدَيْن الذي كان بذمّة الإمام علي عند استشهاده, ليتبيّن لنا البون الشاسع بين المنهجين، ونكتشف عظمة علي والغدير أكثر فأكثر، وهنا ينجلي لنا جانب من السرّ الذي تنطوي عليه عظمة الغدير ومقولة الرسول الكريم باعتباره أهمّ الأعياد. مسؤوليتنا تجاه الغدير
لكي نعرف طبيعة وحجم المسؤولية التي يلقيها الغدير على عاتقنا، يجب أولاً أن نسأل أنفسنا: إلى أي مدى تعرّف العالم المعاصر على الغدير وسبر أسراره العميقة؟ وإذا كان يجهل الغدير فمن الذي يتحمّل مسؤولية هذا الجهل؟ وما طبيعة المسؤولية التي نضطلع بها في الغدير أمام الله (عزّ وجلّ) وتجاه المجتمعات الإسلامية؟
في الحقيقة، لا يحمل الجيل الحالي عموماً تصوراً واضحاً وصحيحاً عن الغدير، وتقع مسؤولية ذلك على عاتقنا نحن في بالدرجة الأولى، فلو أدّينا واجبنا في شرح فكرة الغدير للناس لكان الوضع أفضل ممّا نحن عليه الآن.
كان علينا أن نوضّح للعالم بأنّ الغدير يعني تحقيق الرفاهية وتوسيع نطاقها، وبلوغ التقدم والرقي والوفور وعمران المجتمعات الإنسانية، الغدير يعني المساواة بين الممسكين بمقاليد الاقتصاد والمال وبين باقي أفراد المجتمع، والقضاء على الطفيلية والعصابات، وحسب ثقافة الغدير، فإنّ المسؤولين عن الشؤون المالية هم المؤتمنون فحسب ولا شيء أكثر من ذلك. الخلاصة، إنّ الغدير يعني ميثاق ولاة الأمر مع الله (عزّ وجلّ) بأن يجعلوا مستوى عيشهم بمستوى أقلّ الأفراد في المجتمع، وأن يحاكوهم في المأكل والمسكن والملبس والرفاهية ...إلخ.
في الختام، نؤكّد على المسؤولية الخطيرة الملقاة على عاتقنا إزاء الغدير وأمير المؤمنين ، وضرورة الالتزام بهذه المسؤولية فيما يتعلّق بالغدير، ومن أهمّ جوانب هذه المسؤولية في الوقت الراهن نشر مفاهيم الغدير، ودعوة عموم الناس لينهلوا من هذه المائدة السماوية, وفي غير الحالة هذه، لا يوجد أدنى أمل في كفّ الحكّام المستبدّين أيديهم عن المستضعفين، وإنقاذ الإنسانية يوماً ما من هذا الوضع السيء والخطير، والوصول إلى ساحل الأمن والرفاهية والعدل والحرية.
بقي أن نتساءل: يا ترى هل سينجب التاريخ حاكماً عادلاً يقتفي أثر الإمام علي الذي كان يتعاطف مع أضعف مواطني حكومته؟ هنا يتوضّح جلياً مغزى قول الإمام الرضا : «لو عرف الناس فضل هذا اليوم بحقيقته لصافحتهم الملائكة في كلّ يوم عشر مرّات».
وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.